من أكثر الملفات قلقاً للجانب الإيراني هو الأقلية الأذرية الموجودة على أرضيها وليس فقط خسائرها الإقتصادية التي قد يسببها التغلغل التركي
قفزت تركيا في العقدين الأخيرين قفزات نوعية على صعيد جودة الحياة وخفض الواردات
وزيادة الصادرات الصناعية وتحييد المؤسسة العسكرية وكذلك التدرج في تبني خيارات
جديدة في ما يتعلق بالهوية السياسية للدولة، وتماشياً مع تلك الهوية بدأت بشق
طريقها نحو تعزيز نفوذها الخارجي في سياقات أكثر تصادمية مع القوى الدولية
والإقليمية لأسباب تتعلق بالتنافس الاقتصادي والتغلغل العسكري وكذلك ممارسة النفوذ
السياسي. لذلك حينما نشرت قناة (TGRT)
القومية التركية مؤخراً خريطة عمرها 12 عاماً تظهر تركيا في عام 2050، كانت قد وردت
في كتاب للباحث الأمريكي جورج فريدمان، مؤسس (ستراتفور) أكبر المنظمات البحثية
المتعاونة مع المخابرات الأمريكية، بدأت الكثير من المنظمات الإقليمية الإعلامية
والسياسية باتهام تركيا بالسعي لتوسيع نفوذها على حساب الشعوب الأخرى.
تلك الخريطة فسرت على أنها الوجه الحقيقي لتطلعات الطبقة الحاكمة في تركيا وتفسير
واقعي لدعم أنقرة عسكرياً لأذربيجان أثناء تحرير "قره باغ" وكذلك وجودها في ليبيا
والصومال وقطر وسعيها لتعزيز وجودها الإقتصادي والعسكري في إفريقيا لكن ما يثير
الانتباه والقلق بالنسبة لمنافسين قويين لتركيا وهما إيران وروسيا، طبيعة إستثمار
تركيا للإنتصارات التي حققتها أذربيجان، ففور الإنتصار وقعت أذربيجان وتركمانستان
اتفاقية لإنهاء نزاع بينهما على تقاسم مخزون النفط في بحر قزوين، وجاءت هذه
الإتفاقية لتمنح بلدان وسط أسيا خطوط تجارية جديدة عبر أفغانستان إلى تركيا للتجاوز
روسيا وإيران. كذلك ستفتح هذه الإتفاقية الباب أمام تنفيذ خط الغاز الجنوبي الذي
تطمح لتنفيذه أذربيجان وقد تنظم إليه تركمانستان في حالة تمرد واضحة على الإحتكار
الروسي للغاز وفرصة ذهبية لتركيا في سبيل وضع المزيد من وسائل الضغط على أوروبا.
إضافة لما سبق فقد توصلت كلاً من كابول وباكو وعشق أباد إلى إتفاق أكثر أهمية من
سابقه وهو يتعلق بتدشين "ممر اللازورد"ويهدف إلى نقل "النحاس" عبر أفغانستان إلى
تركيا. كذلك اتخذت كازاختسان الشهر الماضي خطوة مشابهة تتعلق بزيادة الطاقة
الإستيعابية لميناء "أكتاو" لتتمكن من تصدير البضائع عبر السفن إلى أذربيجان
لإرسالها إلى تركيا ثم أوروبا.
بالتزامن مع الإتفاقات المتسارعة والتي جميعها يصب في مصلحة تركيا، أقدمت إيران
وروسيا على إقامة مناورات بحرية في بحر قزوين في إشارة واضحة على استيائهما مما
يدور في تلك المنطقة من تغيرات سياسية، ورغم أن تلك المناورات لا تعبر بالضرورة عن
وجود نية لضغوط عسكرية روسية لإفشال مثل هذه الإتفاقيات إلا أنها إشارة روسية
إيرانية واضحة على أن الإضرار بمصالح تلك الدول لن يكون مستبعداً لا سيما وأن تلك
الإتفاقيات تخدم منافساً قوياً لهما وهو تركيا.
وفقاً لدراسة أعدها " "jamestownفإن
التحركات التركية في تلك المنطقة أفزع الكثير من المحللين السياسيين في روسيا
وإيران وجعل خارطة "فريدمان" بمثابة إنذار شديد الخطورة لطبيعة الإستهداف التركي
لبطن روسيا الناعم في شمال القوقاز وكذلك شبه جزيرة القرم.
ففي ديسمبر 2020 جرت محادثات بين الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي والرئيس
التركي رجب طيب أردوغان تبعها لقاءات ثنائية بين وزراء الخارجية والدفاع من البلدين
أسفرت عن عناوين سياسية واضحة تتعلق بدعم سياسي تركي للمطالب الأوكرانية باستعادة
"القرم"، وتعاون عسكري ضخم يتعلق ببرامج تطوير مشتركة للمحركات التوربينية
والطائرات المسيرة والصواريخ المضادة للسفن وتقنيات الفضاء والأقمار الصناعية، كذلك
تقدمت أنقرة ببرامج تمويل لتطوير تقنيات المحركات المتقدمة وكذلك وافقت أوكرانيا
على نقل معرفتها التقنية في مجال صناعة الأقمار الصناعية إلى تركيا.
ورغم أن إيران لم تحظى على الإهتمام الكبير في خريطة "فريدمان " إلا أن الدعم
التركي المفاجئ للحرب في أذربيجان جعل طهران قلقة من التصرفات التركية لاسيما وأن
أنقرة بدأت باستهداف مناطق النفوذ الإيرانية مثل العراق وسوريا، ومن أكثر الملفات
قلقاً للجانب الإيراني هو الأقلية الأذرية الموجودة على أرضيها وليس فقط خسائرها
الإقتصادية التي قد يسببها التغلغل التركي، ففي ديسمبر 2020 وأثناء إحتفال أذربيجان
بإنتصاراتها ألقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قصيدة للشاعر الأذربيجاني محمد
إبراهيموف، أشار فيها إلى أهمية نهر أرس للشعب الأذربيجاني، ويقطع نهر أرس الحدود
بين إيران وأذربيجان، وتعيش على إحدى ضفتيه أقلية أذرية تركية في شمال إيران، وهو
أمر إعتبرته إيران دعوة إنفصالية وقامت بإستدعاء السفير التركي إحتجاجاً على
تصريحات أردوغان. كذلك تسبب التلفزيون التركي بأزمة بين البلدين عقب نشره خريطة
لإقليم الأحواز العرب الذي تحتله إيران وهو منفصل عن خريطة إيران، وجاء نشر الخريطة
عقب قيام تاجر مخدرات كردي من أصول عراقية بالتعاون مع المخابرات الإيرانية لإختطاف
القيادي في حركة النضال العربي لتحرير الأحواز، حبيب الكعبي، من اسطنبول ونقله إلى
طهران سرا.
ما سبق يشير إلى أن تقييم الإنتصار الأذري في "قره باغ" لم يعد صداه فقط ضمن دائرة
الإهتمام الإقليمي في وسط أسيا، بل إنه أصبح أكثر فاعلية في إعادة بناء تكتل يمكن
لتركيا في تلك المنطقة ويؤثر على مستقبل روسيا وإيران ونفوذهما بل ويمنح تركيا
بطاقة إقتصادية جديدة تعزز قدرتها على التأثير في الملف الأوروبي. كذلك ستكون هذه
العلاقة على المدة الطويل بداية تصاعد الاضطراب في العلاقة بين طهران وأنقرة لا
سيما وأن الأقلية الأذرية أصبحت أكثر طموحاً للانفصال مع عدم استبعاد الخيار
العسكري لتحقيق هذا الحلم، فقد أصبحت باكو بالنسبة للكثير من دول وسط أسيا نافذة
إلى أوروبا عبر تركيا وكذلك فرصة للتحلل من القيود الروسية المفروضة بموجب إحتكارها
لصادرات الغاز.