ارتدى حزب العدالة والتنمية في بداياته ثياب العلمانية المتسامحة وليست العلمانية المتشددة والتي غلبت على النظام السياسي التركي منذ عهد أتاتورك،
نشر مركز ستراتفور الأمريكي للدراسات دراسة مثيرة للجدل كتبها مؤسس المركز الباحث
الشهير جورج فريدمان، رسم فيها خريطة افتراضية للنفوذ الجغرافي التركي المتوقع في
عام 2050.
ووفقًا لتلك الخريطة، ستسيطر تركيا على كل من اليونان وجنوب قبرص وجزء كبير من
الدول العربية، بالإضافة إلى جورجيا وأرمينيا وأذربيجان وشبه جزيرة القرم
وتركمانستان وكازاخستان.
هذه الخريطة أثارت القلق في دول العالم الكبرى ومنها روسيا، فوفق وكالة سبوتنيك
الروسية فإن النائب الأول لرئيس لجنة الدفاع بمجلس الدوما ألكسندر شيرين، دعا حكومة
بلاده للنظر إلى الأمر بموقف جدي قائلًا: تركيا بعد عملية ناجحة في قره باغ آمنت
تمامًا بقوتها، وبالتالي فهذه الخريطة تشير رسميا إلى أين ستذهب بعد ذلك.
ففي حين أشار النائب الأول لرئيس لجنة الدفاع بمجلس الدوما (البرلمان الروسي)
أندريه كراسوف، إلى أن القيادة التركية لديها أفكار حول إعادة بناء الإمبراطورية
العثمانية، ولكنه عاد وشكك في أن أنقرة تريد ضم الأراضي الروسية بالقوة.
وقال رئيس البحث العلمي في معهد حوار الحضارات الروسي المستشرق أليكسي مالاشينكو،
على الهواء في شبكة
NSN،
إن أنقرة تحاول إبراز الماضي الإمبراطوري للبلاد على تركيا الحالية، وأوضح: عندما
ينظرون إلى شبه جزيرة القرم وأوروبا والشرق الأوسط، يتذكرون أنها كانت دولة واحدة
في يوم من الأيام، ولكنه أرجع ذلك إلى أن عرض الخريطة هو جزء من الدعاية، وليس
لتركيا تأثير كبير على روسيا، وليس متوقعا ذلك في المستقبل.
فهل بالفعل أن نشر هذه الخريطة جزء من دعاية ورغبة في تحجيم الدور التركي بنظرية كش
ملك؟ وخاصة أن مركز ستراتفور الأمريكي للدراسات تطلق عليه الصحافة الأمريكية اسم
وكالة المخابرات المركزية في الظل، باعتبار أن معظم خبراء مركز ستراتفور ضباط
وموظفون سابقون في الاستخبارات الأمريكية، وهذا المركز يزود مشتركيه بتحليلات جيو
سياسية تمكنهم كما يقول المركز من فهم العلاقات الدولية، وماذا يجري فيها الآن
ولماذا يحصل ذلك وماذا سيحدث بعدها.
أم أن الأمر حقيقي بالفعل وتركيا لها طموح بالفعل لاستعادة إمبراطورتيها السابقة؟
للإجابة على هذه الأسئلة وتوقع الاحتمالات المختلفة، فإنه يلزمنا تحليل ومعرفة
حقيقة توجهات النظام السياسي التركي:
منذ أن قامت الدولة العثمانية فإنها رفعت لواء الإسلام في محاولة لتوحيد وادماج
الشعوب والأعراق التي انضوت تحت اللواء العثماني، وخاصة أن الدولة الفتية قد اتجهت
في معظم توسعاتها نحو الغرب المسيحي، فلذلك كانت الدولة حريصة على ابراز الهوية
الإسلامية رغم أن الأساس وقاعدة الدولة كانت ترتكز على العرق التركي.
وعندما بدأت الدولة العثمانية في الانهيار كانت التوجهات القومية التركية وإعادة
الاعتزاز بالجنس التركي، هي الراية التي تجمع عليها الذين أرادوا هدم الدولة
العثمانية خاصة من حزب الاتحاد والترقي، ولكن توجهات هؤلاء القومية في البداية لم
تكن تحمل طابعا علمانيا مناهضا للدين، ولكن مع مرور الوقت ومع الحرص على تمكين
القوميين الأتراك وبالضغط الغربي، بدأ هؤلاء القوميون والذين تمكنوا من مفاصل
الدولة بالنزوع نحو العلمانية، ووصل الأمر إلى ذروته مع وصول أتاتورك لسدة الحكم
واشتراط الدول الأوروبية علمنة تركيا وإلغاء الخلافة، حتى يتم سحب القوات العسكرية
الغربية من أراضيها.
ومنذ ذلك الوقت أخذت الحياة السياسية التركي الطابع والتوجه العلماني وانعكس ذلك
على المجتمع التركي، الذي أخذ تدريجيا ينحى نحو الغرب واتسم بالصبغة العلمانية في
توجهاته، وبالرغم من محاولات بعض السياسيين الأتراك وقف هذا الزحف التغريبي، ولكن
محاولاتهم باءت بالفشل وفشلت كذلك محاولات الأحزاب الإسلامية في استعادة الهوية
الإسلامية للسياسة التركية، والتي اصطدمت بوقوف الجيش سدا منيعا ضد هذه المحاولات،
حتى جاء حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة أردوغان فحاول التوفيق بين مزيج من
توجه إسلامي وقومي، لا ينابذ الغرب العداء ويحاول أن يجد لحزبه مكانا في أوروبا في
مواجهة الداخل العلماني التركي والذي يحتمي بقوة الجيش العسكرية، وتصادف في هذا
التوقيت أنه قد جاء متوافقا مع رغبة أمريكية في إيجاد نوع من الإسلام الليبرالي
المتسامح مع الغرب خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فمنعت الجيش التركي من
إزاحة أردوغان من الحكم عندما نجح في انتخابات ديسمبر 2002، وكانت الولايات المتحدة
في ذلك التوقيت تحضر لغزو العراق واحتلاله والذي تم بعدها بثلاثة أشهر، وكان يهمها
استقرار الوضع في تركيا المجاورة للعراق والتي تقع فيها قاعدة انجرليك الأمريكية،
والتي كانت قاعدة من بين قواعد المنطقة والتي انطلقت العمليات العسكرية الأمريكية
ضد العراق.
ارتدى حزب العدالة والتنمية في بداياته ثياب العلمانية المتسامحة وليست العلمانية
المتشددة والتي غلبت على النظام السياسي التركي منذ عهد أتاتورك، حتى أن أردوغان
نفسه في بداية حكمه عجز عن ادخال ابنتيه الجامعة بسبب ارتدائهما الحجاب فسفرهما إلى
الولايات المتحدة لاستكمال تعليمهما الجامعي، وتمكن أردوغان بتغليب العلمانية
المتسامحة من تفكيك تلك العلمانية المتشددة، ونجح في جعل التمسك بالدين وإظهار
شعائره حرية شخصية يحميها القانون مثل ما يحمي الخارجين عن الدين.
ثم بدأ الحزب بالتدريج الذي يجيده في الإعلان عن هوية إسلامية ممزوجة بطابع قومي،
نابعة من تحالف حزب العدالة مع الحزب القومي التركي، وهذا التحالف هو الذي يبقي حزب
أردوغان متمتعا بغالبية في البرلمان التركي ويستطيع تمرير مشاريعه المختلفة، وانعكس
ذلك على الخطاب السياسي والجماهيري للحزب، ففي احتفالية بمناسبة المولد النبوي يقول
أردوغان: "نحن لا نريد شبابا يتجول مسلحا بسكاكين، وزجاجات المولوتوف الحارقة،
ونبال ليقذف بها كرات حديدية. نحن نريد الاحترام والحب، وجيلا يسير على هدي النبي
الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم". وأضاف في الكلمة التي ألقاها خلال حفل توزيع
جوائز مسابقة (السيرة النبوية) في مدينة اسطنبول: "نحن نريد جيلا يمسك بقلم في يده
ليكتب لنا سيرة نبي الهدى، ورسول السلام، على ورقة، ليقتدي بها في حياته. نريد جيلا
يعرف كتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم، يعيش دينه كما ينبغي، وأن يكون على دراية
بتاريخه وثقافته. وإنني سأشعر بالفخر باسمي وباسم الأمة والشعب التركي، إذا حصلنا
على جيل بهذا الشكل، لأنه سيكون الضامن لبقاء أمته، واستمرارها".
وعن الانتخابات، قال: بعضهم يخرج ليتحدى القرآن، وآخرون يتحدون سنة النبي محمد صلى
الله عليه وسلم وهديه. ولا جرم أنهم يفعلون ذلك بذريعة الديمقراطية والحرية. لكن من
المؤكد أن شعبنا سيلقنهم الدرس اللازم في الزمان المناسب"، مضيفاً: "هناك أشخاصاً
تزعجهم أصوات الأذان بتركيا، ولا شك أن المكان المناسب للرد على أولئك هو صناديق
الانتخابات الديمقراطية".
وفي مهرجان انتخابي في مدينة إسطنبول وأمام قرابة اثنين مليون من أنصاره، عاد
أردوغان ليكرر قصيدة "مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون
جنودنا، هذا الجيش المقدس يحرس ديننا"، وهي الكلمات التي دفعت الجيش للزج به إلى
السجن قبل ذلك في عام 1998 بتهمة التحريض على الكراهية الدينية.
وبدأت حكومة الحزب نحو المزيد من رفع الحظر عن الممارسات الإسلامية، مثل تخفيف
القيود على الحجاب وإلغاء التمييز ضد خريجي مدارس الأئمة وغيرها، وتم تفسيرها من
قبل الحزب في تحول نحو علمانية متسامحة بينما يفسرها العلمانيون بالأسلمة.
ثم تأتي دعوة رئيس البرلمان الصريحة بإدخال الشريعة في الدستور التركي 2017،
وبالرغم من أن أردوغان استنكر ذلك التصريح إلى أن المعارضة التركية العلمانية
اعتبرته نوع من المناورة من جانب حزب أردوغان وبالونة اختبار لرد فعل الأحزاب
والقوى الخارجية.
وقد حذر الباحث الأمريكي من أصل تركي سونرجاغايتاي في مقال له نشره معهد واشنطون
لسياسة الشرق الأدنى وهو معهد يتأثر بتوجهات اليمين المحافظ الأمريكي، من أنه لا
يمكن تجاهل خطاب حزب العدالة والتنمية واعتباره عمل سياسي داخلي لا يمثل خطورة، ففي
حين يمكن تجاهل تصريح معادي للغرب من قبل سياسي دنماركي باعتباره جنونيا، قد يعتبر
نفس التصريح طبيعيا إذا أدلى به مسؤول مصري ولكن تركيا ليست الدنمارك ولا هي مصر،
إنه البلد النادر الذي تشُكل فيه التصريحات المعادية للغرب مواضيع ذات أهمية في
الواقع نظرا لأنها تساعد على تشكيل هوية الناس.