صلاة التطوع (يا أهل القرآن أوتروا)
الحمد لله الرحيم الرحمن، الكريم المنان؛ شرع الدين لمصالح العباد، وأمرهم بالانقياد والامتثال، ووعدهم بأحسن الجزاء، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا شيء في الدنيا ألذ من العبودية له، والوقوف على بابه، وتوجه القلب إليه، وصدق الرغبة فيه؛ فتلك الحياة الطيبة، من ذاقها ذاق طيبات الآخرة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ نصح لأمته فبلغها دينها، وفصل لها شريعتها، ودلها على ما ينفعها، وحذرها مما يوبقها، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه ولا تعصوه، واعملوا صالحا في دنياكم تجدوه ذخرا أمامكم {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 6 - 8].
أيها الناس: الصلاة أعظم الأعمال العملية التي يُتقرب بها إلى الله تعالى، وهي تجمع عبادة القلب بالخشوع والخضوع والسكون، وعبادة اللسان بالقراءة والذكر والدعاء، وعبادة الجوارح بالقيام والركوع والسجود. ولعظم مكانة الصلاة في مقامات العبودية كرر الله تعالى الفريضة على العباد في اليوم والليلة خمس مرات، ونوع لهم التطوع بها؛ كصلاة الليل والوتر، والسنن الرواتب، وصلاة الضحى، وغيرها من التطوع المرتب، عدا التنفل المطلق بالصلاة، وهو مشروع في كل وقت سوى أوقات النهي.
والوتر سنة مؤكدة، لم يتركه النبي في سفر ولا حضر، ولا في صحة ولا مرض، وحض أمته عليه، وهو من صلاة الليل التي هي أفضل الصلاة بعد الفريضة، وجاء الأمر به في حديث عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ، يُحِبُّ الْوِتْرَ» رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة.
وأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلاَثٍ: صِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ» رواه الشيخان.
وبالوتر يختم المؤمن صلاته في الليل؛ لحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اجْعَلوا آخِرَ صلاتِكم بالليلِ وِترًا» رواه الشيخان.
وله أن يوتر في أي جزء من الليل، في أوله أو وسطه أو آخره؛ لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كُلَّ اللَّيْلِ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ» رواه الشيخان.
ومن ظن أنه يستيقظ آخر الليل فوتره آخر الليل أفضل؛ حيث تنزل الرب سبحانه، واستجابة الدعاء، وفي حديث جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ» رواه مسلم.
ومن خاف أن يفوته الوتر أوتر قبل أن ينام؛ لحديث جَابِرِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: «مَتَى تُوتِرُ؟ قَالَ: أَوَّلَ اللَّيْلِ بَعْدَ الْعَتَمَةِ، قَالَ: فَأَنْتَ يَا عُمَرُ، قَالَ: آخِرَ اللَّيْلِ، قَالَ: أَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ فَأَخَذْتَ بِالثِّقَةِ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا عُمَرُ فَأَخَذْتَ بِالْقُوَّةِ» رواه أحمد.
ومن رحمة الله تعالى بعباده أن كان الوتر منوعا في عدده وصفته:
فإذا استيقظ العبد مبكرا، أو صلى قبل أن ينام وله فسحة من الوقت، فالأفضل أن يصلي إحدى عشرة ركعة، مثنى مثنى، ويوتر بواحدة؛ لحديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلاَةِ اللَّيْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» رواه الشيخان. وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ، إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ» رواه مسلم.
وله أن يوتر بثلاث أو بخمس سردا فلا يجلس للتشهد إلا في آخرها؛ لحديث أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ...» رواه أبو داود وصححه ابن حبان. وحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ بِخَمْسٍ، لَا يَجْلِسُ إِلَّا فِي الْخَامِسَةِ، فَيُسَلِّمُ» صححه الترمذي وابن حبان.
وينهى عن صلاة الوتر بثلاث يجعل فيها تشهدين كصلاة المغرب.
وله أن يوتر بسبع سردا لا يجلس للتشهد إلا في السابعة، ويسلم؛ لحديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِسَبْعٍ أَوْ بِخَمْسٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِتَسْلِيمٍ» رواه النسائي.
وله أيضا أن يجلس للتشهد في السادسة ولا يسلم، بل يقوم للسابعة ويسلم منها. وله أن يوتر بتسع سردا، فلا يجلس للتشهد إلا في الثامنة ولا يسلم بل يقوم للتاسعة، ويسلم منها؛ لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَوْتَرَ بِتِسْعِ رَكَعَاتٍ لَمْ يَقْعُدْ إِلَّا فِي الثَّامِنَةِ، فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيَذْكُرُهُ وَيَدْعُو، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يُصَلِّي التَّاسِعَةَ، فَيَجْلِسُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَدْعُو، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً يُسْمِعُنَا، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، فَلَمَّا كَبِرَ وَضَعُفَ أَوْتَرَ بِسَبْعِ رَكَعَاتٍ لَا يَقْعُدُ إِلَّا فِي السَّادِسَةِ، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ، فَيُصَلِّي السَّابِعَةَ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ» رواه النسائي. قال الإمام الترمذي رحمه الله تعالى: «وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوَتْرُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، وَتِسْعٍ، وَسَبْعٍ، وَخَمْسٍ، وَثَلَاثٍ، وَوَاحِدَةٍ».
والسنة أن يقرأ في الوتر بما ورد في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الوِتْرِ: بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِي رَكْعَةٍ رَكْعَةٍ» رواه الترمذي. ولو قرأ غيرها جاز، ولو صلى الوتر واحدة وأطالها جدا جاز أيضا؛ لما ورد أَنَّ أَبَا مُوسَى رضي الله عنه: «كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَصَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَةً أَوْتَرَ بِهَا، فَقَرَأَ فِيهَا بِمِائَةِ آيَةٍ مِنَ النِّسَاءِ» رواه النسائي.
والسنة إذا سلم من الوتر أن يسبح الله تعالى؛ لما جاء في حديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْوَتْرِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» رواه أحمد، وصححه ابن حبان.
نسأل الله تعالى أن يستعملنا في طاعته، وأن يجعلنا من أوليائه، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
أيها المسلمون: ينبغي للرجل إذا أوتر أن يوقظ أهله وولده للوتر، وإن كانوا أهل سهر ذكرهم به، وحضهم عليه، وتابعهم فيه؛ حتى يعتادوه فلا يتركوه، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَإِذَا أَوْتَرَ، قَالَ: قُومِي فَأَوْتِرِي يَا عَائِشَةُ» رواه مسلم.
والأصل أن الوتر يكون قبل الفجر؛ لحديث أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا» رواه مسلم. ولكن ورد عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم أوتروا بين الأذان والإقامة من صلاة الفجر، فلو نام ولم يستيقظ إلا بعد الأذان فأوتر فلا حرج عليه إن شاء الله تعالى؛ لأنه تأسى بالصحابة رضي الله عنهم.
وإذا كان على سفر جاز له الوتر جالسا على وسيلة سفره؛ لحديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ عَلَى الرَّاحِلَةِ» رواه النسائي.
أيها الإخوة: الوتر سنة مؤكدة، قد واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي للمؤمن التفريط فيه، قَالَ الإمام أَحْمَدُ رحمه الله تعالى: «مَنْ تَرَكَ الْوِتْرَ عَمْدًا فَهُوَ رَجُلُ سَوْءٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ لَهُ شَهَادَةٌ». وقد خُرج كلامه مخرج التأكيد على الوتر، والزجر عن تركه، لا أنه يرى أنه فريضة، وقد علق الإمام ابن قدامة على كلام الإمام أحمد فقال: «وَأَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي تَأْكِيدِهِ؛ لِمَا قَدْ وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي الْأَمْرِ بِهِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ... وَإِلَّا فَقَدْ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، فَقَالَ: الْوِتْرُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْفَرْضِ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا صَلَّى الْفَرِيضَةَ وَحْدَهَا جَازَ لَهُ».
فاحرصوا رحمكم الله تعالى على هذه السنة العظيمة، وربوا عليها أولادكم من صغرهم، فإنهم إذا ألفوها اعتادوها فلم يتركوها ولو غابوا عنكم، وذلك من تربيتهم على الخير، ودلالتهم عليه، وإسداء النصح لهم، وتقديم النفع إليهم.
وصلوا وسلموا على نبيكم...