في الحلقة السابقة تمت
مناقشة أنواع الأموال التي أشار القرآن الكريم إلى وجوب زكاتها ، وإلى المفهوم
اللغوي لكلمة المال ، وفي هذه الحلقة سيتم مناقشة القواعد والضوابط والشروط التي
تحدد صفة المال الذي تجب فيه الزكاة :
ضوابط ما يجب
زكاته من أموال : يختلف المعنى الشرعي للمال لدى فقهاء
المذاهب ، فمنهم من يرى : أن المال هو كل ما يمكن حيازته والانتفاع به على وجه
معتاد ، وقد اختُلف حول مفهوم الحيازة لدى الشافعية والمالكية والحنابلة ، إذ لا يقتصر
مفهوم الحيازة على إمكان إحرازه بنفسه ، بل يكتفى بحيازة أصله ومصدره ، وبحسب هذا
المفهوم للحيازة تكون المنافع أموالاً [1] .
على ضوء ما سبق من مفهوم
للمال سواء وفق المفهوم اللغوي أو الشرعي ، فهل يمكن اعتبار كل ما يملكه الإنسان
مما له قيمة مالاً ، وبالتالي تجب فيه الزكاة مهما يكن مقداره ومهما تكن الحاجة
إليه ؟ .
إن الإجابة على هذا التساؤل
تتم من خلال دراسة ضوابط وشروط المال الذي تجب فيه الزكاة .
وتتمثل هذه الضوابط والقواعد
في الأمور التالية :
الضابط الأول :
تمام الملك : ويقصد به الحيازة وحق التصرف فيه ، أما حقيقة
الملك فهي لله وحده ؛ فهو منشئه وخالقه وواهبه ورازقه ، يقول (تعالى) : { وَآتُوهُم
مِّن مَّالِ اللَّهِ الَذِي آتَاكُمْ} [النور : 33] ، ويقول : { وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [الحديد : 7] ، أما ملك
الإنسان للمال فهو ملك حيازة وتصرف وانتفاع ، لا تملك إيجاد وإنشاء ؛ لهذا نرى أن
القرآن الكريم حينما يضيف المال إلى الإنسان فهو يؤكد هذا المعنى ، كما في قوله
(تعالى) : { يَا
أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ } [المنافقون : 9] ، وقوله (تعالى) : { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } [الهمزة : 3] ، وقوله (تعالى) : { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } [المسد : 2] ، فتمام الملك في المفهوم الشرعي كما عرّفه القرافي في
(الفروق) هو : (حكم شرعي قُدِّر وجوده في عين أو في منفعة ، يقتضي تمكين من أضيف
إليه من الأشخاص من انتفاعه بالعين أو بالمنفعة أو الاعتياض عنها ما لم يوجد مانع
من ذلك) [2]
.
يرتب هذا الشرط على المال
بعض الأحكام ، من حيث أن يكون مرجوّاً غير ميئوس منه ، وهذا الأمر يقتضي إما وجوب
الزكاة أو عدم وجوبها ، فمثلاً عدم وجوب الزكاة على أموال الدولة التي تجبيها مثل
أموال الزكاة أو ما تمتلكه ملكية عامة مثل المرافق المنتجة المملوكة بالكامل
للدولة ، حيث إن عائد هذه الملكية وأصل المال يرجع إلى المسلمين بأجمعهم ، وما
تكسبه الدولة من هذا المال تصرفه على مصالح المسلمين .
كما يترتب على مفهوم تمام
الملك موضوع الديون ومدى وجوب الزكاة فيها ، وعلى من تجب
؟ على الدائن أم المدين ؟ ومتى يتحقق الوجوب ؟ إن موضوع الديون من
الموضوعات المهمة بالنسبة لتحديد وعاء الزكاة ؛ ولهذا : نرى اختلاف الفقهاء (رحمهم
الله) حول الديون ومدى وجوب الزكاة فيها ، ويقسم جمهور
الفقهاء الدّين إلى نوعين :
1- دين مرجو
الأداء ، بأن يكون لدى موسر مقر بالدين ، فهذا يزكى مع
المال في كل حول ، وقد روى أبو عبيد القاسم بن سلام رأي علماء السلف في ذلك بأن
يزكى مع المال الحاضر ؛ لما رواه عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه كان إذا
أخرج العطاء أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد .
كما روى ذلك عن عثمان (رضي
الله عنه) وأنه كان يقول : (إن الصدقة تجب
في الدين الذي لو شئت تقاضيته من صاحبه ، والذي هو على مليء تدعه حياء أو مصانعة ،
ففيه الصدقة) ، كما روى عن ابن عمر (رضي
الله عنه) أنه كان يقول : (كل دين لك ترجو أخذه فإن عليك زكاته كلما حال الحول) ،
كما روى ذلك عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) ، وقد وافق عدد من التابعين هؤلاء
الصحابة ، منهم : مجاهد ، ومروان بن مهران [3].
2- الدين غير
المرجو تحصيله ، ففيه مذاهب ، هي : الأول : تزكيته عند القبض لما مضى من السنين ،
وهو مذهب علي وتابعه ابن عباس (رضي الله عنهم) ، فكان علي (رضي الله عنه) يقول في
الدين المشكوك فيه : (إن كان صادقاً فيزكه إذا قبضه لما مضى) ، ويقول ابن عباس
(رضي الله عنه) : (إذا لم ترج أخذه فلا تزكه حتى تأخذه ، فإذا أخذته : فزكِّ عنه
ما عليه) . الثاني : تزكيته عند القبض لسنة واحدة ،
وهو مذهب الحسن ، فقد روى أبو عبيد عنه أنه كان يقول : (إذا كان للرجل دين حيث لا
يرجوه فأخذه بعد : فليؤد زكاته سنة واحدة) [4] .
وكان يقول بذلك عمر بن عبد
العزيز (رضي الله عنه) ، فقد روى عنه
ميمون بن مهران قائلا : (كتب إليّ عمر بن عبد العزيز في مال رده عليّ رجل
، فأمرني أن آخذ منه زكاة ما مضى من
السنين ، ثم أردفني كتاباً أنه كان مالاً
ضماراً فخذ منه زكاة عامه) [5] . الثالث : أنه لا
زكاة عليه ، وهو مذهب أبي حنيفة ، باعتباره مثل المال المستفاد ، يستأنف به
صاحبه الحول ، فلا زكاة فيه [6]
.
وقد اختار أبو عبيد القاسم
بن سلام الرأي الأول فيما يتعلق بالدين المرجو : أنه لا زكاة فيه حتى يتم قبضه
وتزكيته عما مضى ، وعلل رأيه بقوله : (وإنما اختاروا من اختار منهم تزكية الدين مع
عين المال ؛ لأن من ترك ذلك حتى يصير إلى
القبض لم يكن يقف من زكاة دينه على حد ، ولم يقم بأدائها ؛ وذلك أن الدين ربما اقتضاه ربه متقطعاً كالدراهم
الخمسة والعشرة وأكثر من ذلك وأقل ، فهو
يحتاج في كل درهم يقتضيه مما فوق ذلك إلى معرفة ما غاب عنه من السنين
، والشهور والأيام ، ثم يخرج من زكاته
لحساب ما يصيبه ، وفي أقل من هذا ما تكون
الملامة والتفريط ، ولهذا : أخذوا بالاحتياط ، فقالوا : تزكيته مع جملة
ماله في رأس الحول ، وهو عندي وجه الأمر
، وهذا كله في الدين المرجو الذي يكون على الثقات) [7] .
ونحن نميل إلى هذا الرأي
فيما يتعلق بالدين المرجو ، أما بالنسبة للدين غير المرجو والمشكوك في تحصيله :
فنميل إلى الأخذ بالمذهب الثاني ، وقد أخذ به من الفقهاء المعاصرين : فضيلة
الدكتور (القرضاوي) [8]
، وهو
أن يتم تزكيته عند قبضه لعام واحد ، باعتباره ميئوساً منه ، وأنه بمثابة المال
المستفاد الذي يتم إخراج زكاته عند تحصيله دون اشتراط الحول .
إن الأخذ بهذا
الرأي سوف يحقق أمرين :
أولهما : عدم
إضاعة حق الفقراء والمساكين عند تحصيله .
ثانيهما : أنه
لو تم احتساب زكاته عما مضى لكل سنة فقد يكون فيه ضرر على صاحب المال ،
فقد تستغرق الزكاة الدّين جميعه ، كما قد يصعب تحديد فترات الحول ، وخاصة بالنسبة
للتجار الذين يتعاملون مع أعداد كبيرة من المدينين .
الضابط الثاني
: النماء : يقصد بالنماء : أن المال الذي تؤخذ منه
الزكاة يكون نامياً بذاته ، بالتوالد ، والتناسل ، والتجارات ، أو قابلاً للنماء ،
والذي من شأنه أن يدر على مالكه ربحاً أو غلة أو إيراداً ، بحيث يكون هو نفسه
نماءً أو فضلاً وزيادة ، مثل مدخرات النقود .
إن الحكمة من
اشتراط النماء كما ذكر ابن قدامة : أن (الزكاة إنما وجبت
مواساة ، ولم نعتبر حقيقة النماء ؛ لكثرة اختلافه وعدم ضبطه ، ولأن ما اعتبرت
مظنته لم يلتفت إلى حقيقته ، كالحكم مع الأسباب ، ولأن الزكاة تتكرر في هذه
الأموال ، فلا بد لها من ضابط ؛ كي لا يفضي إلى تعاقب الوجوب في الزمن الواحد مرات
، فينفد مال المالك) [9]
،
ويحدد الكاساني الحكمة من ذلك في (بدائع الصنائع) من زاوية أخرى ، فيقول : (ولا
نعني به حقيقة النماء ؛ لأن ذلك غير معتبر ، وإنما نعني به كون المال معدّاً
للاستثمار بالتجارة أو الإسامة ؛ لأن الإسامة سبب لحصول الدر والنسل والسِّمَن ،
والتجارة سبب لحصول الربح ، فيقام السبب مقام المسبب ويعلق الحكم به ، كالسفر مع
المشقة .. ونحو ذلك) [10]
.
إن تأثير هذا الضابط على
الأموال التي تجب فيها الزكاة يتمثل في مدى شمولية واتساع الأموال الخاضعة للزكاة
، وهو مجال اختلف فيه الفقهاء ، فمثلاً لا يأخذ ابن حزم بشرط النماء ، وإنما يطبق
الزكاة على الأصناف التي أخذ منها النبي -
صلى الله عليه وسلم- الزكاة ، وبالتالي : فهو لا يوجب الزكاة ، على
الأصناف الأخرى ، أما من جعل من ضوابط
المال الخاضع للزكاة ضابط النماء : فقد أفسح المجال لخضوع جميع الأموال مهما تنوعت
وتغيرت أنماطها ، وقد دلت آيات القرآن الكريم والأحاديث التي أوجبت الحقوق في
الأموال على ذلك ، ولا يتم استثناء بعض الأموال من الزكاة إلا بدليل شرعي يخرجها
من هذا الضابط .
الضابط الثالث
: بلوغ النصاب : يضع هذا الضابط حدّاً للمال الذي تجب
فيه الزكاة ، والذي يتمثل في بلوغ النصاب ، فإذا بلغ المال هذا الحد وجبت فيه
الزكاة ، وما لم يبلغه المال فلا زكاة فيه ، وبالتالي : فإن مقدار الزكاة يتفاوت
بتفاوت المال وفق تفاوت الأنصبة ، وقد حددت السنة الأنصبة لمختلف أنواع الأموال
بحيث لا يستوجب المال الزكاة إلا إذا بلغها ، كما ربطت الأنصبة بجنس المال .
إن اعتبار النصاب أحد
الضوابط في اشتراط وجوب الزكاة فيه إرشاد إلى الغاية من فرض الزكاة ، فالغاية منها
: تحقيق التكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة ، وقيام أغنياء الأمة بكفالة فقرائها
والمحتاجين من ذوي النوائب .
ومقدار الأنصبة وتحديدها قد
يفهم منه الإرشاد إلى الحدود الدنيا لكفاية الإنسان وضرورة الاسترشاد بذلك بدراسة
حجم الأموال التي تخرج الإنسان من دائرة الفقر إلى دائرة الغنى .
إن من الإشكاليات
التي تطرح حول مقادير الأنصبة : ثباتها ، فمثلاً : إن قيمة
مئتي درهم أو خمسة أوسق قد لا تكفي حاجة الإنسان إذا نظر إلى أن الأنصبة تمثل حدود
الفقر والغنى ، وعليه : فهل يمكن رفع مقدار الأنصبة بما
يعادل الزيادة في تغير قيمتها بمرور الزمن ؟ .
إن هذا التساؤل مهم إذا نُظر
إلى الأنصبة باعتبارها حدود الإعفاء ، واعتبار الزكاة ضريبة ، أي : نظر إلى الزكاة
باعتبارها أداة من أدوات المالية العامة ، وبالتالي : فيعتبر النصاب هو حد الإعفاء
، ومن هنا : ينبغي النظر في رفع النصاب باعتباره حد الإعفاء وفق التغير في قيمة
السلع والمنافع .
إن الرد على ذلك وفق ما
أشرنا إليه في الحلقة الماضية : أن أصل الزكاة عبادة ، يجب على الفرد المسلم
أداؤها إذا توفر لديه النصاب ، وتحديد النصاب أمر توقيفي ، لذا : تظهر ضرورة قياس
أنصبة الأموال المستجدة بالأموال التي ورد فيها النص .
إن بعض الباحثين المعاصرين
عند مناقشته لأنصبة الزكاة أو التعرض لأحكام الزكاة ينظر للأمر من زاوية التشريعات
المالية المعاصرة ، وبموجب هذه النظرة : فقد يحدث مخالفة الأحكام الواردة في
الأحاديث النبوية المتعلقة بالزكاة ، كما ينبني على هذه النظرة أن الشريعة
الإسلامية تحاكي في تشريعها المالي النظام المالي المعاصر ، والذي يضع حدوداً
للإعفاء لمقابلة احتياجات الممولين ، ولكن الشريعة بكمالها لم تغفل هذا الجانب من
تأثير التغير في قيمة النصاب ، حيث تم استيعاب ذلك من خلال الضابط الرابع ، وهو :
الفضل عن الحوائج الأصلية .
الضابط الرابع
: الفضل عن الحوائج الأصلية : إن وجوب الزكاة في المال
وفق ما يذهب إليه الأحناف لا يجب إلا إذا كان النصاب فاضلاً عن الحاجة الأصلية
لمالكه ، وقد استُدل بأحاديث ، منها : ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة
، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : (إنما الصدقة
عن ظهر غنى) [11]
، وفي
رواية : (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) ، وما ورد عن الصحابة في تفسيرهم لقوله (تعالى)
: { وَيَسْأَلُونَكَ
مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ } [البقرة : 219] ، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) : العفو : ما يفضل
عن أهلك ، وقد ذكر ابن كثير أن هذا القول قال به ابن عمر ، ومن التابعين : مجاهد ،
وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير .
وترد بقية المذاهب على ذلك
بعدم اشتراط هذا الضابط بحمل الحديث وما جاء في تفسير الآية على صدقة التطوع
والإنفاق المندوب لا الواجب ، وعلى هذا : لا يمكن اعتبار أنه لا يزكى إلا ما فضل
عن حاجة الشخص حيث إن الحاجة نطاقها واسع حتى ولو حددت بالأمور الأساسية ، كما أن
الأحاديث الواردة في الزكاة والسنة الفعلية للرسول -صلى الله عليه وسلم- لم تعمد
إلى تحديد الحوائج الأصلية ، وقد كانت
الزكاة تؤخذ ممن توفر لديه النصاب بدون نظر إلى الحاجة ، كما يُرَد على ذلك : بأن
شرطي النماء والنصاب كافيان عن اشتراط الفائض عن الحوائج ؛ لأنه لا صدقة إلا عن
ظهر غنى حقيقي ، فلا يمكن حينئذ أن يصل المال إلى النصاب والإنسان لا يكفي حاجته
الأساسية ، كما أن شرط الحول يقتضي أن الإنسان سيقوم بالصرف على حاجته من ماله ، فإذا
حل الحول وهناك فائض وصل حد النصاب : فإن ذلك مؤشر على سداد الإنسان لحاجته .
الضابط الخامس
: السلامة من الدين : يقصد بهذا
الضابط : ألا يكون مالك النصاب مديناً لأحد دَيْناً يستغرق نصاب الزكاة ،
أو ينقصه عن النصاب ، ففي هذه الحالة لا زكاة عليه .
لقد اختلف
الفقهاء حول هذا الضابط ، وهل يتم استقطاع الديون الواجبة على مالك المال من وعاء
الزكاة ؟ .
واختلف الفقهاء في استقطاع
الديون الواجبة على مالك المال (المكلف) من وعاء الزكاة ، فبالنسبة للأموال
الباطنة (النقود وعروض التجارة) فإن جمهور الفقهاء ذهبوا إلى أن الدّين يمنع وجوب
الزكاة أو ينقص بقَدْره قيمتها ، وذهب بعض الفقهاء (فيما يتعلق بالأموال الظاهرة)
إلى أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة فيها ،
حيث إن تعلق الزكاة فيها أظهر ، وبذلك : فالزكاة أوكد ، وقد قال بهذا مالك والأوزاعي والشافعي ، وورد عن أحمد [12] .
وبالنسبة للدين
في الزروع : فقد اختلف ابن عمر وابن عباس (رضي الله عنهما)
كما ذكره ابن قدامة ، حيث قال : (روي عن أحمد أنه قال : قد اختلف ابن عمر وابن
عباس ، فقال ابن عمر : يُخرج ما استدان أو أنفق على ثمرته وأهله ، ويزكي ما بقي ،
وقال الآخر : يخرج ما استدان على ثمرته ، ويزكي ما بقي ، وإليه أذهب : أن لا يزكي
ما أنفق على ثمرته خاصة ويزكي ما بقي) [13] .
وعلى ضوء ما
سبق ووفقاً لهذا الضابط : فإنه يمكن تحقيق وعاء
الزكاة بالديون المستحقة على صاحب المال ، ولكن يشترط أن يلاحظ ضرورة ثبات الدين
وصحته ، وقيام صاحب المال بالسداد في وقت حلوله ، وألا يماطل به وفق ما أشار إليه
عثمان بن عفان (رضي الله عنه) كما روى ذلك أبو عبيد عن السائب بن يزيد ، قال :
سمعت عثمان بن عفان يقول : (هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده ، حتى تخرجوا
زكاة أموالكم) [14]
.
الضابط السادس
: الحول : إن مفهوم الحول
هو : أن يمر على المال اثنا عشر شهراً عربيّاً ، وهذا الشرط خاص بالنقود
والثروة الحيوانية وعروض التجارة ، أما ناتج الأرض والمستخرج من المعادن والكنوز
ونحوها من الأموال المستفادة فلا يشترط لها مرور الحول .
إن علة عدم تطبيق ضابط الحول
على جميع الأموال أشار إليها الإمام ابن قدامة بقوله : (الفرق بين ما اعتبر له
الحول وما لم يعتبر له : أن ما اعتبر له الحول مرصد للنماء ، فالماشية مرصدة للدر
والنسل ، وعروض التجارة مرصدة للربح ، وكذا : الأثمان ، فاعتبر له الحول ؛ لأنه
مظنة النماء ؛ ليكون إخراج الزكاة من الربح ، فإنه أسهل وأيسر ، ولأن الزكاة إنما
وجبت مواساة ، ولم نعتبر حقيقة النماء ؛ لكثرة اختلافه وعدم ضبطه ، ولأن ما اعتبرت
مظنته لم يلتفت إلى حقيقته ، كالحكم مع
الأسباب ، ولأن الزكاة تتكرر في هذه الأموال ، فلا بد لها من ضابط كيلا يفضى إلى
تعاقب الوجوب في الزمن الواحد مرات ، فينفد مال المالك ، أما الزروع والثمار : فهي
نماء في نفسها ، تتكامل عند إخراج الزكاة منها ، فتؤخذ الزكاة منها حينئذ ، ثم
تعود في النقص لا في النماء ، فلا تجب فيها زكاة ثانية ؛ لعدم إرصادها للنماء ،
والخارج من المعدن مستفاد خارج من الأرض بمنزلة الزرع والثمر ، إلا إنه إن كان من
جنس الأثمان ففيه الزكاة عن كل حول ؛ لأنه مظنة للنماء ، من حيث إن الأثمان قيم
الأموال ورأس مال التجارات ، وبهذا تحصل المضاربة والشركة وهي مخلوقة لذلك ، فكانت
بأصلها وخلقتها كمال التجارة المعد لها) [15] .
إن اشتراط الحول كضابط من
ضوابط المال الذي تجب فيه الزكاة ، قد قسم على ضوئه الأموال إلى نوعين : ما أجمع
عليه جمهور الفقهاء ، ويشمل الذهب والفضة والماشية ، لثبوت ذلك عن الخلفاء الأربعة
، ولانتشاره في الصحابة (رضي الله عنهم) ، ولانتشار العمل به [16] ، أما بالنسبة لبقية الأصناف الأخرى من الأموال
مما لا يشترط فيه الحول : فقد اختلف الصحابة والتابعون فيه : فقد جاء عن ابن مسعود
وابن عباس ومعاوية (رضي الله عنهم) وجوب تزكية المال عند استفادته دون اشتراط
الحول ، وجمهور الصحابة ومنهم : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي (رضي الله عنهم) على
خلافهم ، وهذا يتعلق بالمال المستفاد من غير جنس ما عنده .
ويقصد بالمال
المستفاد : كل مال يدخل في ملكية الشخص بعد أن لم يكن له
، وتنقسم الأموال المستفادة إلى قسمين : أموال تجب فيها الزكاة عند الحصول عليها ،
مثل : الزروع والثمار والمعادن إذا بلغت النصاب ، وقسم يدخل ضمن الأموال الحولية ،
مثل : النقود ، وعروض التجارة ، والماشية ، وقد أشار ابن قدامة إلى أحوال المال
بالنسبة للأموال الحولية ، وقسمها إلى قسمين [17] :
القسم الأول :
المستفاد مما يعتبر له الحول ولا مال سواه وبلغ النصاب ، أو
كان له مال من جنسه لا يبلغ نصاباً فبلغ بالمستفاد نصاباً : فإن وجوب الزكاة تتم
عند تمام الحول فيه .
النوع الثاني :
إن كان عنده نصاب من جنس المال المستفاد ،
وقد قسمه إلى ثلاثة أقسام : الأول : أن يكون المستفاد من النماء كربح مال التجارة
ونتاج السائمة فيضم إلى ما عنده من أصله ، ويعتبر حولُ المال المستفاد حولَ أصله ،
وهذا متفق عليه بين العلماء ، الثاني : أن يكون المستفاد من غير جنس ماله : فلا
يُضَم هذا المال إلى ما عنده في زمن الحول ولا في النصاب، فإن بلغ نصاب زكاة بعد
مضي حول على اكتسابه وإن لم يبلغ النصاب : فلا شيء فيه ، وهذا قول جمهور العلماء ،
لكن روي عن ابن مسعود وابن عباس ومعاوية (رضي الله عنهم) أن الزكاة تجب فيه حين
استفادته .
الثالث : أن
يكون المال المستفاد من جنس نصاب ما عنده ،
وقد انعقد عليه حول الزكاة بسبب مستقل ، مثل : أن يكون عنده أربعون من الغنم مضى
عليها بعض الحول ، فيُعطى مئة ، ففي هذه الحالة اختلف فيها : هل تجب على الماشية
الزكاة أم لا ، قال الشافعي : إنه لا تجب فيها الزكاة حتى يمضي حول عليها ، وأما
أبو حنيفة فيرى أن يضم إلى ما عنده في الحول فيزكيهما جميعاً عند تمام حول المال
الذي كان عنده ، إلا أن يكون عوضاً عن مال مزكى .
(1) انظر :
فقه الزكاة ، د يوسف القرضاوي ، ج1 ، ص 125 .
(2) نقلاً عن
المصدر السابق ، ص 129 .
(3) الأموال ،
لأبي عبيد القاسم بن سلام ، ص 526 527 .
(4) المرجع
السابق ، ص 528 .
(5) المال
الضمار : هو الذي لا يظن صاحبه الحصول عليه ، انظر : المرجع السابق ، ص 528 .
(6) انظر :
المصدر السابق .
(7) المرجع
السابق ، ص 530 531 .
(8) انظر :
فقه الزكاة ، ج1 ، ص38 .
(9) المغني ،
ج2 ، ص 625 .
(10) بدائع
الصنائع في ترتيب الشرائع ، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني ، ج2 ، ص 21 .
(11) أخرجه
أحمد بن حنبل ، 2/501 ، والدارمي ، وأخرجه البخاري (ك/ الزكاة ، 18) ، وأحمد ابن
حنبل (2/230) بلفظ : (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) .
(12) انظر :
فقه الزكاة ، للقرضاوي ، ج 1 ، ص 157 .
(13) المغني ،
ج3 ، ص 42 .
(14) الأموال
، لأبي عبيد ، ص 534 .
(15) المغني ،
ج2 ، ص625 .
(16) انظر :
فقه الزكاة ، ج1 ، ص 162 .
(17) انظر :
المغني ، ج2 ، ص 626 627 .