• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
العبودية بين التوحيد والإخلاص

العبودية بين التوحيد والإخلاص

إن تحديد المصطلحات وتوضيح دلالتها ومفاهيمها يساعد أهل العلم على إزالة الإشكال في الفهم ، ويضيّق من دائرة الخلاف بينهم ، كما يفتح الباب للوصول إلى الحق بعيداً عن أهواء وحظوظ النفوس التي نهانا الشرع الحنيف عنها ؛ إذ تؤدي إلى توسيع دائرة الفرقة والخلاف بين المسلمين المأمورين بالتأصيل العلمي والشرعي لتوحيد الرؤية ، وخاصة في المسائل العقدية وكليات الدين وأصوله .

على أن من العلماء مَنْ يستعمل لفظ « الإخلاص » بدل لفظ « التوحيد » ؛ لاعتقادهم أن مصطلح التوحيد لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة ! وأنه طارئ في الفكر والعقيدة الإسلاميين ، بينما ورد مصطلح الإخلاص في عدد من آي الذكر الحكيم ، بل هناك سورة في القرآن الكريم اسمها سورة « الإخلاص » .

وفي رأيي أن الخلط بين هذين المصطلحين إنما يعود لعدة أمور ؛ إما لعدم فهم دلالتهما فهماً سليماً ضمن السياق القرآني ، ووفق قواعد وضوابط العقيدة عند أهل السنة والجماعة ؛ وإما لأن هذه الرؤية ناتجة عن هوى خفي في النفس ؛ أو بسبب ردود الأفعال تجاه رؤى وأفكار تُصنَّف في خانة الفكر المخالف .

مصطلح التوحيد :

التوحيد في اللغة : وحّد : أصل واحد يدل على الانفراد [1] ، وتوحَّد : بقي مفرداً ، ووحَّده توحيداً : جعله واحداً ، والأوحد والمتوحّد : ذو الوحدانية [2] .

والله هو الواحد الأحد :ذو الوحدانية والتوحد ، والله الأوحد والمتوحد وذو الوحدانية ، ومن صفاته الواحد الأوحد .

التوحيد في الاصطلاح الشرعي : هو الإيمان بالله - تعالى - وحده ، والشهادة بأنه واحد لا شريك له [3] .

وفسر أهل السنة التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل والمُنادّة ؛ فالله - عز وجل - منفرد بذاته وصفاته وأفعاله لا نظير له ولا شبيه له ، متفرد بصفات الكمال ونعوت الجلال ، فهو واحد في ذاته وفي صفاته لا مثيل له ، وفي ألوهيته وملكه وتدبيره لا شريك له ، ولا رب سواه ، ولا إله غيره [4] .

مصطلح الإخلاص :

الإخلاص في اللغة : خلص : معناه : تنقية الشيء وتهذيبه [5] ، وخلص خلوصاً وخالصة : صار خالصاً ، والخالص : كل شيء أبيض يمتاز بالصفاء كالثلج [6] .

وأخلصه وخلّصه وأخلص لله دينه : أمحضه ، والمُخْلَص الذي أخلصه الله - تعالى - وجعله مختاراً خالصاً من الدنس [7] .

الإخلاص في الاصطلاح الشرعي : هو ترك الرياء والسمعة ، وهو إسلام الوجه لله بإخلاص القصد والعمل له .

وقيل : هو إفراد الحق - سبحانه - بالقصد في الطاعة ، وقيل : تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين ، وقيل : استواء أعمال العبد في السريرة والعلانية ، وقيل : تصفية العمل من كل شَوْب [8] .

صِيَغ التوحيد والإخلاص كما جاءت في القرآن الكريم :

جاءت صِيَغ التوحيد في القرآن الكريم أربعاً :

1 - وحده : { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } ( الإسراء : 46 ) .

2 - واحد : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } ( البقرة :163 )

3 - واحداً : { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا } ( التوبة : 31 ) .

4 - أحد : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ( الإخلاص : 1 ) .

كما جاءت صيَغ الإخلاص في الكتاب العزيز أيضاً متعددة :

1 - مخلصاً : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ } ( الزمر : 2 ) .

2 - الخالص { أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ } ( الزمر : 3 ) .

3 - مخلصون : { وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } ( البقرة :139 ) .

4 - مخلصين : { هُوَ الحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } ( غافر : 65 ) .

الفرق بين التوحيد والإخلاص :

التوحيد : التوحيد متعلق بألوهية الله - عز وجلّ - وربوبيته وأسمائه وصفاته وحده لا شريك له ، وهذا الإفراد في الاعتقاد والخبر نوعان :

الأول : إثبات مباينة الرب - تعالى - للمخلوقات وعلوِّه فوق سبع سماوات واستوائه على عرشه كما يليق بجلاله ، وفق ما جاءت به الكتب المنزلة وأخبرت به جميع الرسل .

والثاني : إفراده - سبحانه - بصفات الكمال وإثباتها له على وجه التفصيل ، كما أثبتها لنفسه وأثبتها له رسله ؛ منزَّهة عن التكييف والتحريف والتعطيل والتمثيل [9] .

وقد أفرد الإمام الكبير أبو عبد الله البخاري حيِّزاً للتوحيد في جامعه الصحيح سماه : ( كتاب التوحيد ) ، وجاء في الباب الأول : « باب ما جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى » [10] .

الإخلاص : أما الإخلاص فمتعلق بالعبد ؛ إذ لا يصلح إيمانه ولا تصلح عبادته إلا به .

ولذلك نجد الخطاب في القرآن الكريم موجَّهاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفته قدوة للمؤمنين وأسوة لهم ، يدعوه أن يعبد الله وحده بلا شريك ، ويدعو الخلق إلى ذلك ، ويعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا بالإخلاص لله - تعالى - : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ } ( الزمر : 2 ) .

وفي الآية الكريمة التي تليها قال الله عز وجل : { أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ } ( الزمر : 3 ) ، أي : لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له [11] .

وفي السورة الكريمة نفسها ؛ أمر الله - جل ذكره - نبيَّه الكريم بالإخلاص المحض في العبادة : { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ } ( الزمر : 11 ) .

وفي السياق ذاته يأتي منطوق الآيتين الكريمتين ( 14 ، 15 ) ؛ ليؤكد أمر إخلاص العبادة لله تعالى ؛ مهدِّداً ومتوعداً من يتبع هواه في العبادة : { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ } ( الزمر : 14-15 ) .

ولذلك سميت هذه السورة الكريمة ( سورة الزمر ) بسورة الإخلاص الكبرى [12] ، لِما جاء فيها من تأكيد على إخلاص العبادة لله وحده ، ونبذ الأنداد ، وترك الرياء والسمعة ، واستفراغ الجهد في الطاعة ظاهرة وباطنةً ، وأن يكون قصد العبد هو الله - تعالى - وحده لا شريك له .

الخلاصة :

وهكذا ، فإن التوحيد قاعدةُ تصوُّرٍ ومعرفةٌ لله - سبحانه وتعالى - في ذاته وأفعاله وصفاته ، وأنه ليس كمثله شيء .

وهذه المعرفة تجعل الإنسان صاحب تصوُّرٍ صحيح ودقيق عن الخالق ، بحيث يعرف ربه وخالقه المعرفة الصحيحة ، وأن أصدق مصدر لهذه المعرفة هو الخالق نفسه .

ولهذا ينبغي التقيّد بما وصف به الرب - جلّ ثناؤه - نفْسَه من الصفات ، وسمَّى نفسه من الأسماء ؛ ليكون المؤمن صاحب معرفة صحيحة ودقيقة في توحيد الخالق جل وعلا ، فتكون معاملته للخالق - سبحانه - على الوجه الصحيح والمطلوب في الإثبات والمعرفة ، وفي الإرادة والقصد ؛ فيجرِّد العبادة له : حبّاً ، وتعظيماً ، وخوفاً ، ورجاءً ، وصِدقاً ، وإخلاصاً ، وإنابة ، وإخباتاً ، وتوكلاً ، واستعانة .

أما الإخلاص فعمل قلبي محض تنعكس آثاره على الجوارح ، وهو روح الأعمال ؛ إذ نسبته للعمل كالروح للجسد .

وعلى قدر ما يحقق العبد الإخلاص في اعتقاده وعمله يكون ترقّيه في سلك المخلصين .

وعلى هذا النحو ، ينبغي التفريق بين مصطلح التوحيد ومصطلح الإخلاص ؛ لأن الدلالات تختلف والعلاقات تتشابك ؛ فالتوحيد إفراد لله - تعالى – بالربوبية والألوهية وصفات الكمال ونعوت الجلال ، والإخلاص هو روح الأعمال بالنسبة للعباد ، وهو الفرقان بين التوحيد والشرك .


 


(1) ابن فارس : معجم مقاييس اللغة ، ج 6 ، ص 90 .

(2) الزاوي : مختار القاموس ، ص 56 .

(3) الزاوي ، مختار القاموس ، ص 560 ، أحمد عصام الكاتب : عقيدة التوحيد ، ص 113 .

(4) أحمد عصام الكاتب : عقيدة التوحيد ، ص 113 - 114 ، نقلاً عن إسماعيل بن محمد

الأصفهاني في كتابه : الحجة في بيان المحجة .

(5) انظر : ابن فارس ، معجم مقاييس اللغة ، ج 2 ، ص 208 .

(6) الزاوي : مختار القاموس ، ص 190 .

(7) ابن فارس : معجم مقاييس اللغة ، ج 1 ، ص 877 .

(8) ابن القيم : تهذيب مدارج السالكين ، ص 321 - 323 ، (بتصرف يسير) .

(9) المصدر السابق ، ص 646 .

(10) البخاري : الجامع الصحيح ، ج 8 ، ص 163 .

(11) ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ، ج 7 ، ص 84 .

(12) سفر الحوالي : ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي ، ج 2 ، ص 601 .

 

 

أعلى