إن تحديد المصطلحات وتوضيح دلالتها ومفاهيمها
يساعد أهل العلم على إزالة الإشكال في الفهم ، ويضيّق من دائرة الخلاف بينهم ، كما
يفتح الباب للوصول إلى الحق بعيداً عن أهواء وحظوظ النفوس التي نهانا الشرع الحنيف
عنها ؛ إذ تؤدي إلى توسيع دائرة الفرقة والخلاف بين المسلمين المأمورين بالتأصيل العلمي
والشرعي لتوحيد الرؤية ، وخاصة في المسائل العقدية وكليات الدين وأصوله .
على أن من العلماء مَنْ يستعمل لفظ « الإخلاص
» بدل لفظ « التوحيد » ؛ لاعتقادهم أن مصطلح التوحيد لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة
! وأنه طارئ في الفكر والعقيدة الإسلاميين ، بينما ورد مصطلح الإخلاص في عدد من آي
الذكر الحكيم ، بل هناك سورة في القرآن الكريم اسمها سورة « الإخلاص » .
وفي رأيي أن الخلط بين هذين المصطلحين إنما يعود
لعدة أمور ؛ إما لعدم فهم دلالتهما فهماً سليماً ضمن السياق القرآني ، ووفق قواعد وضوابط
العقيدة عند أهل السنة والجماعة ؛ وإما لأن هذه الرؤية ناتجة عن هوى خفي في النفس ؛
أو بسبب ردود الأفعال تجاه رؤى وأفكار تُصنَّف في خانة الفكر المخالف .
مصطلح التوحيد :
التوحيد في اللغة : وحّد : أصل واحد يدل على الانفراد [1] ، وتوحَّد : بقي مفرداً ، ووحَّده توحيداً : جعله واحداً ، والأوحد والمتوحّد : ذو الوحدانية
[2] .
والله هو الواحد الأحد :ذو الوحدانية والتوحد
، والله الأوحد والمتوحد وذو الوحدانية
، ومن صفاته الواحد الأوحد .
التوحيد في الاصطلاح الشرعي : هو الإيمان بالله - تعالى - وحده ، والشهادة بأنه واحد لا شريك له [3] .
وفسر أهل السنة التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل
والمُنادّة ؛ فالله - عز وجل - منفرد بذاته وصفاته وأفعاله لا نظير له ولا شبيه له
، متفرد بصفات الكمال ونعوت الجلال ، فهو واحد في ذاته وفي صفاته لا مثيل له ، وفي
ألوهيته وملكه وتدبيره لا شريك له ، ولا رب سواه ، ولا إله غيره [4] .
مصطلح الإخلاص :
الإخلاص في اللغة : خلص : معناه : تنقية الشيء وتهذيبه [5] ، وخلص خلوصاً وخالصة : صار خالصاً ، والخالص : كل شيء
أبيض يمتاز بالصفاء كالثلج [6] .
وأخلصه وخلّصه وأخلص لله دينه : أمحضه ، والمُخْلَص
الذي أخلصه الله - تعالى - وجعله مختاراً خالصاً من الدنس [7] .
الإخلاص في الاصطلاح الشرعي :
هو ترك الرياء والسمعة
، وهو إسلام الوجه لله بإخلاص القصد والعمل له .
وقيل : هو إفراد الحق - سبحانه - بالقصد في الطاعة
، وقيل : تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين ، وقيل : استواء أعمال العبد في السريرة
والعلانية ، وقيل : تصفية العمل من كل شَوْب [8] .
صِيَغ التوحيد والإخلاص كما جاءت في القرآن
الكريم :
جاءت صِيَغ التوحيد في القرآن الكريم أربعاً :
1 - وحده : { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ
نُفُورًا } ( الإسراء : 46 ) .
2 - واحد : { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ
} (
البقرة :163 )
3 - واحداً : { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا } ( التوبة : 31 ) .
4 - أحد : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ( الإخلاص : 1 ) .
كما جاءت صيَغ الإخلاص في الكتاب العزيز أيضاً
متعددة :
1 - مخلصاً : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا
لَّهُ الدِّينَ } ( الزمر : 2 ) .
2 - الخالص { أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ } ( الزمر : 3 ) .
3 - مخلصون : { وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ
} (
البقرة :139 ) .
4 - مخلصين : { هُوَ الحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ } ( غافر : 65 ) .
الفرق بين التوحيد والإخلاص :
التوحيد : التوحيد متعلق بألوهية الله - عز وجلّ - وربوبيته
وأسمائه وصفاته وحده لا شريك له ، وهذا الإفراد في الاعتقاد
والخبر نوعان :
الأول : إثبات مباينة الرب - تعالى - للمخلوقات
وعلوِّه فوق سبع سماوات واستوائه
على عرشه كما يليق بجلاله ، وفق ما جاءت به الكتب المنزلة وأخبرت به جميع الرسل .
والثاني : إفراده - سبحانه - بصفات الكمال وإثباتها
له على وجه التفصيل ، كما أثبتها لنفسه وأثبتها له رسله ؛ منزَّهة عن التكييف والتحريف
والتعطيل والتمثيل [9] .
وقد أفرد الإمام الكبير أبو عبد الله البخاري
حيِّزاً للتوحيد في جامعه الصحيح سماه : ( كتاب التوحيد ) ، وجاء في الباب الأول :
« باب ما جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى
» [10] .
الإخلاص : أما الإخلاص فمتعلق بالعبد ؛ إذ لا يصلح إيمانه
ولا تصلح عبادته إلا به .
ولذلك نجد الخطاب في القرآن الكريم موجَّهاً
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفته قدوة للمؤمنين وأسوة لهم ، يدعوه أن يعبد الله
وحده بلا شريك ، ويدعو الخلق إلى ذلك ، ويعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا بالإخلاص لله
- تعالى - : {
إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ
فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ } ( الزمر : 2
) .
وفي الآية الكريمة التي تليها قال الله عز وجل
: { أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ } (
الزمر : 3 ) ، أي : لا
يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له [11] .
وفي السورة الكريمة نفسها ؛ أمر الله - جل ذكره
- نبيَّه الكريم بالإخلاص المحض في العبادة : { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ
} (
الزمر : 11 ) .
وفي السياق ذاته يأتي منطوق الآيتين الكريمتين
( 14 ، 15 ) ؛ ليؤكد أمر إخلاص العبادة لله تعالى ؛ مهدِّداً ومتوعداً من يتبع هواه
في العبادة : {
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا
مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ } (
الزمر : 14-15 ) .
ولذلك سميت هذه السورة الكريمة ( سورة الزمر
) بسورة الإخلاص الكبرى [12] ، لِما جاء فيها من تأكيد على إخلاص العبادة
لله وحده ، ونبذ الأنداد ، وترك الرياء والسمعة ، واستفراغ الجهد في الطاعة ظاهرة وباطنةً
، وأن يكون قصد العبد هو الله - تعالى - وحده لا شريك له .
الخلاصة :
وهكذا ، فإن التوحيد قاعدةُ تصوُّرٍ ومعرفةٌ
لله - سبحانه وتعالى - في ذاته وأفعاله وصفاته
، وأنه ليس كمثله شيء .
وهذه المعرفة تجعل الإنسان صاحب تصوُّرٍ صحيح
ودقيق عن الخالق ، بحيث يعرف ربه وخالقه المعرفة الصحيحة ، وأن
أصدق مصدر لهذه المعرفة هو الخالق نفسه
.
ولهذا ينبغي التقيّد بما وصف به الرب - جلّ ثناؤه
- نفْسَه من الصفات ، وسمَّى نفسه من الأسماء ؛ ليكون المؤمن صاحب معرفة صحيحة ودقيقة
في توحيد الخالق جل وعلا ، فتكون معاملته للخالق - سبحانه - على الوجه الصحيح والمطلوب
في الإثبات والمعرفة ، وفي الإرادة والقصد ؛ فيجرِّد العبادة له : حبّاً ، وتعظيماً
، وخوفاً ، ورجاءً ، وصِدقاً ، وإخلاصاً ، وإنابة ، وإخباتاً ، وتوكلاً ، واستعانة
.
أما الإخلاص فعمل قلبي محض تنعكس آثاره على الجوارح
، وهو روح الأعمال ؛ إذ نسبته للعمل كالروح للجسد .
وعلى قدر ما يحقق العبد الإخلاص في اعتقاده وعمله
يكون ترقّيه في سلك المخلصين .
وعلى هذا النحو ، ينبغي التفريق بين مصطلح التوحيد
ومصطلح الإخلاص ؛ لأن الدلالات تختلف والعلاقات تتشابك ؛ فالتوحيد إفراد لله - تعالى
– بالربوبية والألوهية وصفات الكمال ونعوت الجلال ، والإخلاص هو روح الأعمال بالنسبة
للعباد ، وهو الفرقان بين التوحيد والشرك .
(1) ابن فارس : معجم مقاييس اللغة ، ج 6 ،
ص 90 .
(2) الزاوي : مختار القاموس ، ص 56 .
(3) الزاوي ، مختار القاموس ، ص 560 ، أحمد
عصام الكاتب : عقيدة التوحيد ، ص 113 .
(4) أحمد عصام الكاتب : عقيدة التوحيد ، ص
113 - 114 ، نقلاً عن إسماعيل بن محمد
الأصفهاني في كتابه : الحجة في بيان المحجة
.
(5) انظر : ابن فارس ، معجم مقاييس اللغة ،
ج 2 ، ص 208 .
(6) الزاوي : مختار القاموس ، ص 190 .
(7) ابن فارس : معجم مقاييس اللغة ، ج 1 ،
ص 877 .
(8) ابن القيم : تهذيب مدارج السالكين ، ص
321 - 323 ، (بتصرف يسير) .
(9) المصدر السابق ، ص 646 .
(10) البخاري : الجامع الصحيح ، ج 8 ، ص
163 .
(11) ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ، ج
7 ، ص 84 .
(12) سفر الحوالي : ظاهرة الإرجاء في الفكر
الإسلامي ، ج 2 ، ص 601 .