• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
هكذا كان صلى الله عليه وسلم في رمضان

هكذا كان صلى الله عليه وسلم في رمضان

أمر الله تعالى عباده باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأوجب عليهم طاعته .

وسبيل العبد للوصول إلى تحقيق ذلك هو التعرف على هديه صلى الله عليه وسلم ، والحال التي كان عليها صلى الله عليه وسلم في شأنه كافة .

وليس بخاف على مسلم أن الهدي النبوي هو أكمل ما عُرف من هدي وأعظمه ، وأنه بمقدار قرب العبد منه صلى الله عليه وسلم وعمله بمثل عمله صلى الله عليه وسلم يتدرج في سلم الوصول إلى العلا ، ويصعد في مراقي الكمال البشري .

ولما كان شهر رمضان من أعظم مواسم الإسلام وأجلها ، ومن أكثر الفرص السانحة أمام العبد لكي يتقرب من الله تعالى وينال رضاه ، كانت هذه المحاولة للتعرف على هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان ، علّها تكون دليلاً للعاملين ونبراساً للسائرين ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب . وخشية من طول الموضوع[*] ، ولأن المراد الإشارة مع نوع تركيز على الجوانب التي تهم المسلم عملاً ودعوة فسأجعل الموضوع مقتصراً على محاور أربعة :

أولاً : حاله صلى الله عليه وسلم مع رمضان قبل قدومه : كان صلى الله عليه وسلم شديد الزهد في الدنيا عظيم الرغبة فيما عند الله تعالى والدار الآخرة ، وخير دليل على ذلك : قيامه صلى الله عليه وسلم عملياً بالاستعداد للأمر وتهيئته النفس لاستقبال رمضان مقبلة على الخير ، نشيطة في الطاعات ؛ لتغتنم الفرصة كاملة ، وتهتبل الموسم كله . هكذا كان هدي سيد الورى صلى الله عليه وسلم مع رمضان ؛ إذ قام صلى الله عليه وسلم بالعديد من الأمور قبله ، لعل من أبرزها :

* إكثاره صلى الله عليه وسلم من الصيام في شعبان[1] . قالت عائشة : « لم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان ، كان يصوم شعبان كله ، كان يصوم شعبان إلا قليلاً »[2] .

* تبشيره صلى الله عليه وسلم أصحابه بقدومه وتهيئتهم للاجتهاد فيه بذكر بعض خصائصه وتضاعف الأجور فيه ؛ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن ، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب ، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، وينادي منادٍ : يا باغي الخير أقبل ! ويا باغي الشر أقصر ! ولله عتقاء من النار ، وذلك كل ليلة »[3] .

* بيانه صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالصيام : وفي هذه المقالة جملة من ذلك .

* عدم دخوله صلى الله عليه وسلم في صيام رمضان إلا برؤية شاهد أو إتمام عدة شعبان ثلاثين ، عن ابن عمر قال : « تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصامه ، وأمر الناس بصيامه »[4] .

فأين أنت من التهيؤ لرمضان قبل نزوله ، فهو ضيف غنيمة لهذه الأمة ، ينزل عليهم ، فيذكر غافلهم ، ويعين ذاكرهم ، وينشِّط عالمهم ، ويشحذ همهم للطاعات ، فتمتلئ مساجدهم ، وتجود نفوسهم ، وينتصر مجاهدهم .. فما أحقه بأن تعدّ العدة لاستقباله !

ثانياً : أحواله صلى الله عليه وسلم مع ربه في رمضان : كان نبي الهدى عليه الصلاة والسلام أعرف الخلق بربه سبحانه ، وأعظمهم قياماً بحقه .. تدرج في سلم الكمال البشري فبلغ مبلغاً يعجز عن فهمه أكثر العالمين ، فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ! ثم هو يقوم من الليل حتى تنتفخ وتتفطر قدماه . كان له صلى الله عليه وسلم بكاء المذنبين وأنين العاصين ودعاء المكروبين . وأحواله مع ربه في رمضان أنموذج حي يصوِّر عبادته صلى الله عليه وسلم وأشكال خضوعه لبارئه فينطق محدِّداً جوانب عدة ، أبرزها :

* صيامه صلى الله عليه وسلم لشهر رمضان : وهذا بيِّن ، والمراد من إيراده مع بداهته التذكير بشيء من صفة صيامه صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك :

1 - سحوره صلى الله عليه وسلم ، وتأخيره للسحور ، حيث كان صلى الله عليه وسلم يتناوله قبل أذان الفجر الثاني بقليل ، وكذا إفطاره ، وتعجيله للإفطار ، حيث كان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي المغرب ، وكان يفطر على رطب أو تمر أو ماء . وأيضاً : تواضع إفطاره وسحوره صلى الله عليه وسلم .

ندرك هنا أن التكلف الذي نشهده اليوم في إفطار الناس وسحورهم هو أبعد شيء عن هديه صلى الله عليه وسلم ؛ ذلك أنه يوسّع حظ النفس بما يلهي ويثقل عن الطاعة . فحري بالكيس الحازم أن يضبط الأمر ويحدَّ منه ، دون التذرع بالواهي من الحجج ، من تناول الطيب وإكرام الضيف .. بما يفوت خيراً كثيراً . وليتأس بنبيه صلى الله عليه وسلم فيما عرف من أحواله .

2 - دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند الإفطار ، بقوله : « ذهب الظمأ ، وابتلت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله »[5] .

3 - سواكه صلى الله عليه وسلم في حال الصيام ، لما رُوِيَ عن عامر بن ربيعة قال : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو  صائم »[6] .

4 - صبه صلى الله عليه وسلم الماء على رأسه وهو صائم ، لحديث أبي بكر ابن عبد الرحمن قال : « عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرْج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر »[7] .

5 - وصاله صلى الله عليه وسلم الصيام أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة[8] . عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تواصلوا .

قالوا : إنك تواصل ، قال : لست كأحد منكم ، إني أُطعم وأُسقى أو إني أبيت أُطعم وأُسقى »[9] .

6 - سفره صلى الله عليه وسلم في رمضان ، وصومه صلى الله عليه وسلم في حين وفطره في آخر . عن طاوس عن ابن عباس قال : « سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام حتى بلغ عسفان ، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهاراً ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة ، قال : وكان ابن عباس يقول : صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر ، فمن شاء صام ومن شاء أفطر [10] . قال ابن القيم : « ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحدِّ ، ولا صح عنه في ذلك شيء ... وكان الصحابة حين ينشئون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت ، ويخبرون أن ذلك سنته وهديه صلى الله عليه وسلم ... قال محمد بن كعب : أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً ، وقد رُحِّلت له راحلته ، ولبس ثياب السفر ، فدعا بطعام فأكل ، فقلت له : سنة ؟ قال : سنة ، ثم ركب » [11] .

ومهما نقل عن أئمة الفقه ، وأهل العلم في الأفضل من الفطر ، أو الصوم في السفر فيبقى أن الصوم والفطر في السفر ، كل ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما ينبغي أن يراعيه المتعجلون بالإنكار على المفطرين أو الصائمين في السفر .. فلكل مأخذه وحجته .

7 - خروجه صلى الله عليه وسلم من الصيام برؤية محققة أو بإتمام الشهر ثلاثين ، يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، وانسكوا لها ، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين ، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا »[12] .

هذه بعض الجوانب التي تجلي للمسلم شيئاً من صفة صومه صلى الله عليه وسلم ، والتي يظهر صلى الله عليه وسلم من خلالها حريصاً على الإتيان بمستحبات الصوم وآدابه . وهذا ما يدفع المسلم إلى أن يتأمل في صيامه ، ويعمل على تحسين حاله ، ليكون أشد تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثر قرباً منه .

* قيامه صلى الله عليه وسلم الليل في رمضان . ولعل أبرز ما تميز به قيامه صلى الله عليه وسلم ما يلي :

1 - أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في قيامه على إحدى عشرة ركعة ، أو ثلاث عشرة ركعة ، كما يدل لذلك حديث عائشة قالت : « ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة »[13] ، وحديثها الآخر قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة ، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين»[14] .

2 - أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقوم الليل كله ، بل كان يخلطه بقراءة قرآن وغيره ، يدل لذلك حديث عائشة قالت : « ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا قام ليلة حتى أصبح ، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان »[15] ، وحديث ابن عباس ، وفيه : « وكان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ ، يعرض عليه صلى الله عليه وسلم القرآن »[16] .

3 - أن غالب قيامه صلى الله عليه وسلم كان منفرداً ؛ خشية أن يُفرض القيام على أمته . لقد كان شديد الخوف أن يفرض عليها القيام فيقصِّر فيه أناس فيأثموا .. هذا مع شدة حرص صحابته الكرام على أن يقوم بهم غالب الليل أو كله ، لكنه ينظر لمن بعدهم ، وكأنه يرى ضعفنا وشدة عجزنا . وفي هذا درس بليغ للدعاة أن يجمعوا مع الاجتهاد وبذل غاية الوسع في هداية الأمة ودعوتها .. خوفاً شديداً من وقوعها في الإثم رحمة بها .

4 - إطالته صلى الله عليه وسلم لصلاة القيام ؛ فقد سئلت عائشة : كيف كانت صلاة رسول الله في رمضان ؟ فقالت : « ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة : يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثاً ، فقلت : يا رسول الله ، أتنام قبل أن توتر ؟ قال : يا عائشة ! إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي »[17] .

وبذا يتجلى لنا خطأ كثير من الحريصين على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم ، والذين يحرصون على التأسي به في العدد دون الكيفية : من إطالة وخشوع وطمأنينة ، نسأل الله تعالى التوفيق للصواب .

* مدارسته صلى الله عليه وسلم القرآن مع جبريل عليه السلام فعن ابن عباس : « كان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه صلى الله عليه وسلم القرآن »[18] . وفي رواية : ( فيدارسه )[19] : وهذه صيغة فاعلة تفيد وقوع الشيء من الجانبين[20] .

فإذا كان هذا الحرص وتلك العناية بمدارسة القرآن ممن جمع الله له القرآن في صدره ، وتولى تفهيمه إياه ، فما أحوجنا إلى مثل هذه المدارسة لننعم بهداية القرآن الكريم ؟

* تواضعه وزهده صلى الله عليه وسلم : وشواهده كثيرة ، منها : سيلان ماء المطر من سقف المسجد على مصلاه صلى الله عليه وسلم وسجوده في ماء وطين[21] ، وصلاته صلى الله عليه وسلم قيام الليل على حصير[22] ، واعتكافه صلى الله عليه وسلم في قبة تركية على سدتها حصير [23]  ، واعتكافه صلى الله عليه وسلم في بيت من سعف[24] ، وتواضع فطوره وسحوره صلى الله عليه وسلم ، كما تقدم ، ومنها : قلة طعامه صلى الله عليه وسلم . قال عبد الله بن أنيس : « ... فأُتي [أي : النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان] بعشائه فرآني أكفُّ عنه من قلِّته ... »[25] .

ومن هذا يتبين أن الأقرب إلى هديه صلى الله عليه وسلم هو التواضع والزهد ( وهو : ترك ما لا ينفع في الآخرة ) ، والتقلل من نعيم الدنيا ، والحرص على الاخشيشان والبذاذة والتبسط وترك التكلف الذي يكون دافعه تواضع القلب لله تعالى وإخباته له ، وإقباله عليه ، وطمأنينته ورضاه به ، وتعلقه بنعيم الآخرة الباقي ، وهذه حقيقة الزهد ، لا أن نترك ذلك ظاهراً والقلوب شغوفة متطلعة إليه مشغولة به ، فتلك عبودية الدنيا كعبودية الدرهم والدينار .

* إكثاره صلى الله عليه وسلم من الإحسان والبر والصدقة . قال ابن عباس : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان ، فيدارسه القرآن ، فلَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة »[26] . وعلة زيادة جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان : « أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس ، والغنى سبب الجود »[27] .

إنه أثر القرآن .. وثمرة الزهد ، وكفى ! !

* جهاده صلى الله عليه وسلم في رمضان ، وجعله منه شهر بلاء وبذل وفداء ، ويتجلى ذلك بأمرين :

الأول : غزوُه صلى الله عليه وسلم للمشركين في رمضان ، وكون أعظم انتصاراته صلى الله عليه وسلم وأجلّها والمعارك الفاصلة التي تمت في حياته كانت فيه . قال أبو سعيد الخدري : « كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان»[28] ، وقال عمر بن الخطاب قال : « غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان غزوتين يوم بدر والفتح ، فأفطرنا فيهما »[29] .

الثاني : السرايا والبعوث العديدة التي كانت في رمضان ، وهي كثيرة[30] .

وجهاده صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع اجتهادهم في العبادات الأخرى دلالة على أثر الصيام الإيجابي فيما يورثه لصاحبه من قوة في النفس تورث قوة في الجسد .

على أن ما يحتاجه الجسم من الغذاء أقل مما نتصوره اليوم ، وإنما تخور قوى الصائمين المترفين الذين ألفوا الملذات فجهدت نفوسهم بغياب ملذاتها وشهواتها وتأخرها عنهم ؛ إذ لنفوسهم على قلوبهم غلبة وسلطان ، والله المستعان .

اعتكافه صلى الله عليه وسلم وخلوته بربه سبحانه : والمتأمل في حاله في الاعتكاف يلحظ ما يلي :

1 - اعتكافه صلى الله عليه وسلم في المدينة في رمضان من كل سنة ، وتقلبه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف في كل عشر من الشهر ، ثم استقراره في آخر الأمر على الاعتكاف في العشر الأواخر منه ، لإدراك ليلة القدر .

2 - أمره صلى الله عليه وسلم بأن يُضرب له خباء في المسجد يلزمه يخلو وحده فيه بربه »[31] . قال ابن القيم : « كل هذا تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه ، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة ومجلبة للزائرين ، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم ، فهذا لون ، والاعتكاف النبوي لون ، والله الموفق »[32] .

3 - دخوله صلى الله عليه وسلم معتكفه إذا صلى فجر اليوم الأول من العشر التي يريد اعتكافها ، يدل لذلك قول عائشة : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ، ثم دخل معتكفه »[33] .

4 - حرصه صلى الله عليه وسلم وهو معتكف على حسن مظهره ونظافة جسده ، كما في ترجيل عائشة شعره .

5 - زيارة أزواجه صلى الله عليه وسلم في حال اعتكافه وحديثه معهن ، يدل لذلك حديث صفية قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت ... »[34] .

6 - عدم خروجه صلى الله عليه وسلم من معتكفه إلا لحاجة ، يدل لذلك قول عائشة : أنه صلى الله عليه وسلم « كان لا يدخل البيت إلا لحاجة ، إذا كان معتكفاً »[35] وربما أخرج بعض جسده من المعتكف لحاجة ، كترجيل رأسه[36] .

7 - خروجه صلى الله عليه وسلم من معتكفه مصبحاً لا ممسياً من الليلة التي تلي اعتكافه ، كما في حديث أبي سعيد الخدري « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان ، فاعتكف عاماً حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين ، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه » [37] .

وفي اعتكافه صلى الله عليه وسلم وانقطاعه من نفسه ليجتهد في ذكر ربه وعبادة مولاه مع كونه المنتصب لدعوة الناس القائم بشؤون الأمة : دليل على مسيس حاجة الدعاة إلى أوقات خلوة ومراجعة ومحاسبة ، وإن التقصير في ذلك يرسخ عيوب النفس ويزيد أمراضها ، حتى تكون مزمنة ، كما أن حرمان القلب من زادِهِ مورث لقسوته وغفلته وقلة بصيرته وفُرقَانه ، وأيضاً فإن ترك استمداد عون المعين طريق الخذلان . ومن أفضل السبل لتدارك ذلك : الخلوة بالنفس لتجديدها ، ولا أفضل من الاعتكاف لتحقيق ذلك . وقد كثر في الناس ترك هذه السنة المباركة ، قال الإمام الزهري : « عجباً للمسلمين ! تركوا الاعتكاف ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ، ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل » [38] .

* حرصه صلى الله عليه وسلم على تحري ليلة القدر .

* اجتهاده صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر وتركه النوم في لياليها .

قالت عائشة : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل ، وأيقظ أهله ، وجد وشد المئزر » [39] .

* حرصه صلى الله عليه وسلم على مخالفة أهل الكتاب في أعمال رمضان ، وهذا بيِّن من قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يزال الناس بخير ما عَجَّلُوا الفطْر . عَجِّلُوا الفطر فإن اليهود يؤخرون »[40] .

* إكثاره صلى الله عليه وسلم من العمل في رمضان في آخر حياته . عن أبي هريرة قال : « كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة ، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه ، وكان يعتكف كل عام عشراً ، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه »[41] .

تلك معالم بارزة وصور مضيئة في صون الحبيب صلى الله عليه وسلم لأشرف علاقة في حياة الإنسان ، وتحقيقه لغاية المحبة لمولاه عز وجل بقيامه بأمره ورعايته لدينه وتكميله لطاعته . إنها النبراس لسالك الصراط المستقيم ، من حاد عنها اضطرب أمره وتفرق شأنه ، ولم يزل في عوج ولُجَج حتى يبغي طريقاً إلى سنته صلى الله عليه وسلم .

ثالثاً : أحواله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته في رمضان : من تتبع حاله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته في رمضان علم مدى التوازن الضخم الذي كان محققاً له صلى الله عليه وسلم في حياته ؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم كما وصف نفسه : « إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا »[42] ، « خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي » [43] . وتبرز أحواله مع أهله مما يلي :

* تعليمهن : ومن ذلك : أن عائشة قالت : يا رسول الله ، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال : « قولي : اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني »[44] ، وحديثها « أنه صلى الله عليه وسلم قال : إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال ، وكان بلال يؤذن حين يرى الفجر »[45] ، بل إن إخبارهن بجانب من عشرتهن وما علمنه من حاله صلى الله عليه وسلم كان طريق الأمة لمعرفة كثير من هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان وذلك لا يخفى .

* حثه صلى الله عليه وسلم لهن على فعل الخير وإتيان العمل الصالح ؛ حيث أرسل إليهن للصلاة مع الناس خلفه [46] .

من هذه الآثار ندرك حكمة من حِكَم تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكثرتهن مع انشغاله بأمر الأمة ؛ فقد كان ذلك جزءاً أساساً من عملية إرشاد الأمة وتعليمها الإسلام كافة بكل جوانبه الشمولية ، ولم يكن شيء من ذلك يتحقق لولا عنايته عليه الصلاة والسلام بتعليمهن : إرشاداً وتوجيهاً وإجابة وبياناً وترغيباً وترهيباً . وهذا فوق أنه منطلق دعوي مهم ، فهو رعاية للمسؤولية الأولى ، وحفظ لكيان البيت والأسرة من الجهل والكسل .

فَحَيَّ على أسركم يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم و { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } ( التحريم : 6 ) .

* حسن عشرته صلى الله عليه وسلم لهن . ومن الأمور الدالة على ذلك :

1 - مواقعته صلى الله عليه وسلم لهن في غير العشر الأواخر ، يشهد لذلك حديث عائشة قالت : « كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله »[47] ، قال ابن حجر : « قوله : شد مئزره : أي : اعتزل النساء » [48] .

2 - تقبيله صلى الله عليه وسلم لزوجاته ومباشرته لهن وهو صائم ، قالت عائشة : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل في شهر الصوم » [49] ، وسألها الأسود و مسروق : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم ؟ قالت : « نعم ، ولكنه كان أملككم لإربه » [50] .

3 - مراعاته صلى الله عليه وسلم لهن وحرصه على الاستقرار الأسري ؛ إذ ترك الاعتكاف في سنة كما تقدم ، خشية على نسائه من أن يقع بينهن أو في نفوسهن شيء [51] .

4 - زيارة نسائه صلى الله عليه وسلم له في معتكفه وتبادله الحديث معهن ساعة ، وخوفه صلى الله عليه وسلم عليهن وحمايته لهنَّ ، قالت صفية : « كان صلى الله عليه وسلم في المسجد وعنده أزواجه فَرُحْن ، فقال لصفية بنت حيي : لا تعجلي حتى أنصرف معك ، وكان بيتها في دار أسامة ، فخرج صلى الله عليه وسلم معها »[52] .

5 - اعتناؤه صلى الله عليه وسلم بمظهره وتنظيفه لجسده .

فأين هذا ممن حظ أهله من أخلاقه أسوؤها ، ومن أوقاته آخرها ، ومن تفكيره فضلته ، ومن اهتمامه ثمالته .. حتى ما عادوا يطمعون في بره ، ولا يأملون في خيره ؟ ! ثم هو يرجو منهم براً وإحساناً ! إنك لا تجني من الشوك العنب ! .

* خدمة نسائه صلى الله عليه وسلم له ، ومن ذلك : تغسيل زوجه صلى الله عليه وسلم رأسه وترجيلها لشعره وهو صلى الله عليه وسلم معتكف كما عرف ، وضرب زوجه الخباء له صلى الله عليه وسلم في المسجد ليعتكف فيه[53] ، وضرب زوجه الحصير له صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه وطيها له[54] ، ومنه : إيقاظ أهله صلى الله عليه وسلم له ، كما في حديث أبي هريرة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أُريت ليلة القدر ، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها ، فالتمسوها في العشر الغوابر »[55] .

* إذنه صلى الله عليه وسلم لزوجاته بالاعتكاف معه .

* قيامهن ببعض العبادات معه صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك :

1 - الاعتكاف ؛ والظاهر أن غالب زوجاته لم يكن يعتكفن معه صلى الله عليه وسلم في حياته ، أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فالظاهر اعتكافهن بعده ، يدل لذلك حديث عائشة : « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ، ثم اعتكف أزواجه من بعده »[56] .

2 - قيام الليل في بعض ليالي رمضان جماعة في المسجد ، يدل لذلك حديث أبي ذر ، وفيه : « ثم لم يصلِّ بنا حتى بقي ثلاث من الشهر وصلى بنا في الثالثة ، ودعا أهله ونساءه فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح ، قلت له : وما الفلاح ؟ قال : السحور » [57] .

* زواجه صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه في رمضان . كزينب بنت خزيمة أم المساكين [58] ، و حفصة ، و زينب بنت جحش ، [59] .

وبعد : فإن من أوكد الواجبات بداية الرجل عموماً والداعية خصوصاً بتعليم أهله وقرابته ، قال تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } ( الشعراء : 214 ) ، وإذا كان إنفاق الرجل على أهله أفضل من الصدقة وأعظم منها أجراً [60] ، فإن تعليمه وحسن معاملته لهم أفضل وأعظم أجراً من تقديم ذلك لغيرهم مع الأهمية في كلٍ ، فنحن بحاجة إلى إحياء شعار : « ابدأ بمن تعول » [61] ، مع بَعْثِ منهج التوازن والوسطية النبوية التي لا تهمل جانباً على حساب آخر .

رابعاً : أحواله صلى الله عليه وسلم مع أمته في رمضان : حاله صلى الله عليه وسلم مع أمته في رمضان هو جزء لا يخرج عن الصورة العامة لهديه في سائر العام ، مع مزيد توجيه وتعليم فيما يخص رمضان .

وقد تقلب صلى الله عليه وسلم مع صحابته في هذا الشهر بين أحوال عدة ، جملتها فيما يأتي :

* تعليمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه . ومن ذلك : حديث شداد بن أوس « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع ، وهو يحتجم ، وهو آخذ بيدي ، لثماني عشرة خلت من رمضان ، فقال : أفطر الحاجم والمحجوم »[62] .

والتعليم مهمة الأنبياء وأتباعهم ، قال صلى الله عليه وسلم : « إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ، ولكن بعثني معلماً ميسراً » [63] ، وقال الأسود بن يزيد : « أتانا معاذ بن جبل اليمن معلماً وأميراً » [64] ، وهي مهمة شريفة عليَّة الرتبة ، بها يرتفع شأن صاحبها ، ويعظم أجره ، ويزيد برُّه ، ويعم خيره ، ويبقى ذكره ... وللدعاة في رمضان فرصة دعوية سانحة حريّة بالاغتنام مع بذل غاية الجهد في تعليم الناس وتفقيههم وتعريفهم حقيقة الإسلام والإيمان ، واستغلال إقبالهم على المساجد في استصلاح قلوبهم وأعمالهم .

* إرشاده صلى الله عليه وسلم لأصحابه وتوجيهه ووعظه لهم . ومن ذلك : حديث ابن عمر قال : « اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان ، فاتُّخِذَ له فيه بيت من سعف ، قال : فأخرج رأسه ذات يوم ، فقال : إن المصلي يناجي ربه عز وجل فلينظر أحدكم بما يناجي ربه ، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة » [65] .

* تحفيزه صلى الله عليه وسلم لأصحابه على المبادرة في العمل الصالح وبيان ثواب ذلك لهم . ومنه : حديث أبي هريرة في الحث على الصيام ، وفيه : « والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها »[66] .

وتحفيزه صلى الله عليه وسلم : دليل على حرصه على نفع صحبه الكرام ، وعلى أن النفوس مهما بلغت من الكمال والمسابقة في الخيرات لا تستغني عن النصح والتوجيه ترغيباً وترهيباً . وقد أفرط قوم في ذلك فصار حديثهم يكاد لا يخرج عن ذلك في رمضان وغيره ! حتى ألفته النفوس وملَّته ، وفرّط آخرون فصار حديثهم جافاً غليظاً لما أهملوا خطاب القلوب وتحريك العاطفة ، في الوقت الذي أهمل فيه الأولون خطاب العقل وتحريك الفكر . ومنهج القرآن بين هذين ، فليكن لأتباعه منهجاً .

* إفتاؤه صلى الله عليه وسلم لمن سأله من أصحابه ، وعدم معاتبته لمن أذنب وجاء تائبا مستفتياً . فعن عائشة قالت : « أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد في رمضان ، فقال : يا رسول الله ! احترقت احترقت ! فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأنه ؟ فقال : أصبت أهلي ، قال : تصدَّق ، فقال : والله يا نبي الله ! ما لي شيء وما أقدر عليه ، قال : اجلس فجلس ، فبينا هو على ذلك أقبل رجل يسوق حماراً عليه طعام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أين المحترق آنفاً ؟ فقام الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصدق بهذا ، فقال : يا رسول الله ! أغيرنا ؟ فوالله ! إنا لجياع ما لنا شيء ! قال : فكلوه » [67] ، ومثله حديث سلمة بن صخر الأنصاري[68] .

وهذا الموقف وأشباهه في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم داع لحَمَلةِ رسالته أن تمتلئ قلوبهم رحمة بالمدعوين تورث رقة في التعامل معهم ، ورفقاً بسائلهم ، وشفقة على مذنبهم . تلك الميزة التي تضعف لدى بعض المنتسبين للعلم والدعوة والإصلاح حيث يظنون أن المقصر لا يستحق إلا التوبيخ والتقريع والذم والإسقاط جزاء تقصيره ، ويغيب عن أذهانهم هديه صلى الله عليه وسلم وصنيعه مع من واقع زوجته في رمضان ، وغير ذلك كالذي بال في المسجد ، والذي تكلم في الصلاة ؛ بل حتى مع من طلب الإذن له بالزنا ! والدافع إلى ذلك كله الرغبة في هداية الخلق ورحمتهم والعطف عليهم . ويتأكد الأمر في رمضان حين يقبل عامة الناس على المساجد ، وتكثر أسئلتهم عن أحكام الصيام ، وعما اقترفوا من الذنوب ... إن هؤلاء يفتقرون إلى قلوب حانية رقيقة تمسح موضع الداء بلطف ، وتعالجه برفق وتخفف المصاب حتى يظهر للمخطئ الصواب ، فيعود إليه .

* إمامته صلى الله عليه وسلم بالناس . وقد أَمَّ أصحابه في قيام الليل في بعض ليالي رمضان ، وما منعه من الاستمرار إلا خشيته صلى الله عليه وسلم من أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها .

* خطبته صلى الله عليه وسلم فيهم وحديثه إليهم عقب بعض الصلوات[69] .

* جعله صلى الله عليه وسلم من نفسه قدوة لأصحابه ، ومن الدلائل على ذلك :

1 - خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ليصلي فيه من الليل ، كما في حديث عائشة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته ... »[70] .

2 - اعتكافه صلى الله عليه وسلم لتحري ليلة القدر ، وحثه لأصحابه على ذلك .

* إفطاره صلى الله عليه وسلم في السفر بعد العصر ليراه أصحابه ، وذلك بعد أن بلغ بهم الجهد مبلغه .

إن بإمكان الداعية أن يدبج خطباً رنانة ومواعظ بليغة لكنها لن تجد طريقها إلى القلوب كما لو رأت العيون ذلك برؤيتها تطبيق ما سمعت الأذن .

* رحمته صلى الله عليه وسلم بأصحابه . ومن الأمور الدالة على ذلك :

1 - أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالإفطار في السفر قبل ملاقاة العدو ، فعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس في سفره عام الفتح بالفطر ، وقال : تقووا لعدوكم . وصام رسول الله صلى الله عليه وسلم »[71] .

ومن رحمته : نهيه صلى الله عليه وسلم لأصحابه عن الوصال رحمة بهم ، وحثه صلى الله عليه وسلم لأصحابه على تعجيل الفطر وتناول السحور ، وتركه صلى الله عليه وسلم الصلاة بأصحابه جماعة في قيام الليل خشية من أن تفرض عليهم ، وتخفيفه صلى الله عليه وسلم الصلاة حين كان إماماً بهم .

* حثه صلى الله عليه وسلم لأصحابه على طهارة النفس وتوقي الذنوب . ولذا قال : « رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ، ورب قائم حظه من قيامه السهر »[72] .

لقد توجهت عناية كثير إلى إصلاح الظاهر والشدة فيه وإنكار المعاصي والذنوب الجليَّة ، مع ضعفٍ في تناول ذنوب القلب وأمراضه التي تورث ذنوب الجوارح ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب »[73] ، وهذا يعني أن من الصعب النجاح في إصلاح الظاهر ما لم يُعتن بالباطن العناية التي يستحقها مع تجنب إهمال الظاهر ، حتى يتهيأ لنظرة الرضى من الرب تعالى ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم »[74] .

* مخالطته صلى الله عليه وسلم لأصحابه واستماعه إليهم وعدم ترفعه عنهم .ومضى من هذا كثير .

ومخالطة الداعية للناس شرط لا يتحقق التأثير والإصلاح بدونه . والمخالطة ليست مرادة لذاتها ، وإنما لما تثمره من تعليم للخير ، وتوجيه نحو الصواب والأفضل ، وتصحيح للمفاهيم ، ووقوف على الخطأ ، وتهذيب للسلوك ، ومعاونة على الخير وتقوية لأهله ، فالمهم هو المخالطة الواعية الموظَّفة توظيفاً حسناً . كما أن من المهم أن لا يستغرق الداعية في المخالطة حتى تذهب الهيبة ، وتفقد المخالطة روحها ، وحتى ينسى نفسه وأهله ، ولذا اعتنى الداعية الأول صلى الله عليه وسلم بالاعتكاف ؛ لما يحقق من عزلة وخلوة لا غنى للداعية الرصين عنها . فليتوازن الداعية ، والله المعين .

* تأديبه صلى الله عليه وسلم لمن خشي عليه التعمق ، كما واصل بمن أبوا إلا الوصال [75] . إن شريعة الإسلام شريعة اليسر والسهولة « ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه » [76] ، ولطالما تواردت النصوص على هذا الأصل : أصل التيسير ورفع الحرج .. وهذه خاصية الدين الواقعي الملائم للفطرة ، والذي أراد الله لهالبقاء حتى تقوم الساعة .

وتنكيله صلى الله عليه وسلم بمن أرادوا الوصال ينسجم مع ذلك الأصل ؛ إذ خشي صلى الله عليه وسلم عليهم العنت والمشقة ، لكن لما كانت بعض النفوس لا يكفيها الكلام احتاج صلى الله عليه وسلم إلى العقوبة ، ولم تكن تلك العقوبة على أمر محرم ، فلو كان محرماً ما فعلوه ، ولما أقرّهم عليه ، بل إنه زادهم من جنس ما رغبوا فيه ، حتى يدركوا الفرق بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم .

* استقباله صلى الله عليه وسلم لمن وفد عليه . قال ابن إسحاق : « وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك ، وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف »[77] .

إن مخالطته صلى الله عليه وسلم للناس في رمضان صفحة من جهده الدعوي فيه ، وهو ما يحتاجه الدعاة للتأسي به .

* أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بإخراج زكاة الفطر من رمضان .

* إيكاله صلى الله عليه وسلم بعض الأعمال إلى أصحابه ، كما وكّل أبا هريرة بحفظ زكاة رمضان[78] .

وفي هذا تخفيف من الجهد عليه ؛ لأن الشخص بمفرده لا يطيق القيام بجميع المهام ، فلا مفرّ من توكيل الآخرين وتفويضهم في القيام بالأعمال وإنجاز المهام ، وهذا يعكس في الوقت نفسه ثقة الداعية في أصحابه ، وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يعامل صحبه الكرام ، حتى كانوا رجال أمة ودولة .

وأخيراً : فأحسب تلك الصفحات قد أطلعتنا على جزء يسير من سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم . فما أمسَّ حاجتنا إلى التنعم في ظل سيرته صلى الله عليه وسلم والعيش مع أخباره ، والتعرف على أحواله ، وترسم هديه وطريقته ... كيف لا ؛ وذلك الطريق هو السبيل الأوحد لنيل محبة الخالق تعالى والقرب منه ، كما قال عز وجل : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ( آل عمران : 31 ) .


 


(*) أصل هذا المقال دراسة مطولة أعدها الكاتب مؤخراً ، والعدد ماثل للطباعة ، فآثرنا لمناسبة الشهر الاكتفاء بما تسمح به المساحة المتاحة ، متجاوزين كثيراً من التفاصيل ، مكتفين بالإشارة عن العبارة .

(1) راجع في حكمة ذلك : الفتح ، 4/ 253 .

(2) مسلم (1156) .

(3) الترمذي (682) ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (549) .

(4) أبو داود (2342) ، وقال محقق الزاد : 2/38 (وسنده قوي) .

(5) أبو داود (2375) ، وحسنه الألباني في صحيح السنن : (2066) .

(6) الترمذي (725) ، والحديث مختلف فيه والاختلاف في الحديث لا تعلق له بمشروعية السواك للصائم ؛ لعموم الأمر انظر : صحيح ابن خزيمة ، 3/ 247 .

(7) أبو داود (2365) ، وصححه الألباني في صحيح السنن (2072) .

(8) انظر : زاد المعاد ، لابن القيم : 2/ 32 .

(9) البخاري (1961) .

(10) البخاري (4279) .

(11) زاد المعاد 2/ 55 56 ، وأثر ابن كعب أخرجه الترمذي (799) ، وقال : (حديث حسن) ، وصححه الألباني في صحيح السنن 641 .

(12) النسائي (2116) ، وصححه الألباني في صحيح السنن (1997) .

(13) البخاري (1147) .

(14) البخاري (1164) ، والناظر في عصرنا يجد اختلافا شديدا حول عدد صلاة التراويح ، وحين نتأمل في هديه صلى الله عليه وسلم نجد أنه لم يوقت لأمته في قيام رمضان حداً محدوداً وإنما حثهم على القيام فقط ، فدل على التوسعة في هذا الأمر ، وأن بإمكان المسلم أن يفعل ما يستطيع من ذلك بخشوع وخضوع وطمأنينة ، وإن كان الأفضل هو التأسي بفعله صلى الله عليه وسلم من حيث الكم والكيف ، والله أعلم ، انظر : مع الرسول في رمضان لعطية محمد سالم .

(15) المسند لأحمد (24268) ، وقال محققوه : إسناده صحيح على شرط الصحيحين .

(16) البخاري (1902) .

(17) البخاري (2013) .

(18) البخاري (1902) .

(19) البخاري (6) .

(20) انظر : فتح الباري لابن حجر : 8/ 659 .

(21) البخاري (2018) .

(22) أبو داود (1374) ، وقال الألباني في صحيح السنن (1226) : حسن صحيح .

(23) ابن ماجة (1775) ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (1437) .

(24) المسند لأحمد (5349) و قال محققوه : حديث صحيح .

(25) أبو داود (1379) ، وقال الألباني في صحيح السنن (1230) : حسن صحيح .

(26) البخاري (3220) .

(27) فتح الباري : 1/41 ، وانظر 4/ 139 .

(28) مسلم (1116) .

(29) الترمذي (714) ، قال الأرنؤوط في تحقيقه للمسند (140) : حديث قوي .

(30) انظر مثلاً : المغازي للواقدي : 1/ 9 ، 174 ، 39 ، الطبقات لابن سعد : 2/ 6 ، 27 ، 91 .

(31) ابن ماجة (1775) ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (1437) .

(32) زاد المعاد لابن القيم : 2/ 90 .

(33) مسلم (1173) .

(34) البخاري (3039) .

(35) البخاري (2029) .

(36) البخاري (1890) .

(37) البخاري (2027) ، وانظر : صحيح ابن خزيمة : 3/ 352 .

(38) فتح الباري 4/ 334 .

(39) مسلم (1174) وقد ورد في المسند : 6/146 بسند ضعيف عن عائشة رضي الله عنها قالت : (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم ، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر وشمر) .

(40) ابن ماجة (1697) ، وقال الألباني في صحيح السنن (1378) : حسن صحيح .

(41) البخاري (4998) .

(42) البخاري (20) .

(43) الترمذي (3895) ، وصححه الألباني في صحيح السنن (3056) .

(44) مسلم (1147) .

(45) ابن حبان (3473) ، وقال الأرنؤوط : وإسناده قوي ، وانظر : 8 / 252 253 .

(46) النسائي (1364) ، وصححه الألباني في صحيح السنن : (1292) .

(47) البخاري (2024) .

(48) فتح الباري لابن حجر : 4/ 316 سنن البيهقي : 4/314 ، قال محققو المسند 40/ 439 : وإسناده حسن .

(49) مسلم (1106) .

(50) مسلم (1106) .

(51) انظر : فتح الباري لابن حجر : 4/324 ، المنتقى للباجي : 2/ 83 .

(52) البخاري (2038) .

(53) انظر : البخاري (2033) .

(54) انظر : المسند لأحمد (26307) ، وقال محققوه : حديث صحيح لغيره .

(55) مسلم (1166) .

(56) البخاري (2026) .

(57) الترمذي (806) ، وقال : (حسن صحيح) ، وصححه الألباني في صحيح السنن (646) .

(58) تاريخ الطبري : 8/545 .

(59) شذرات الذهب ، لابن العماد : 1/ 119 .

(60) البخاري (1466) .

(61) البخاري (1426) .

(62) أبو داود (2369) ، وصححه الألباني في صحيح السنن (2076) .

(63) مسلم (1478) .

(64) البخاري (6734) .

(65) المسند لأحمد (5349) ، قال محققوه : حديث صحيح .

(66) البخاري (1894) .

(67) البخاري (1935) ، مسلم (1112) ، واللفظ له .

(68) الترمذي (3299) ، وقال : حديث حسن ، وصححه الألباني في صحيح السنن (2628) .

(69) البخاري (1129) ، مسلم (761) ، واللفظ له .

(70) البخاري (2012) .

(71) أبو داود (2365) ، وصححه الألباني (2072) .

(72) المسند لأحمد (8856) ، وقال محققوه : إسناده جيد .

(73) البخاري (52) .

(74) مسلم (2564) .

(75) مسلم (1104) .

(76) البخاري (39) .

(77) سيرة ابن هشام : 4/ 135 .

(78) البخاري (5010) .

 

أعلى