أمر الله تعالى عباده باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأوجب عليهم
طاعته .
وسبيل العبد للوصول إلى تحقيق ذلك هو التعرف على هديه صلى الله عليه
وسلم ، والحال التي كان عليها صلى الله عليه وسلم في شأنه كافة .
وليس بخاف على مسلم أن الهدي النبوي هو أكمل ما عُرف من هدي وأعظمه ،
وأنه بمقدار قرب العبد منه صلى الله عليه وسلم وعمله بمثل عمله صلى الله عليه وسلم
يتدرج في سلم الوصول إلى العلا ، ويصعد في مراقي الكمال البشري .
ولما كان شهر رمضان من أعظم مواسم الإسلام وأجلها ، ومن أكثر الفرص
السانحة أمام العبد لكي يتقرب من الله تعالى وينال رضاه ، كانت هذه المحاولة
للتعرف على هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان ، علّها تكون دليلاً للعاملين
ونبراساً للسائرين ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب . وخشية من طول
الموضوع[*] ، ولأن المراد الإشارة مع
نوع تركيز على الجوانب التي تهم المسلم عملاً ودعوة فسأجعل الموضوع مقتصراً على
محاور أربعة :
أولاً : حاله صلى الله عليه وسلم مع رمضان قبل قدومه :
كان صلى الله عليه وسلم شديد الزهد في الدنيا عظيم
الرغبة فيما عند الله تعالى والدار الآخرة ، وخير دليل على ذلك : قيامه صلى الله
عليه وسلم عملياً بالاستعداد للأمر وتهيئته النفس لاستقبال رمضان مقبلة على الخير
، نشيطة في الطاعات ؛ لتغتنم الفرصة كاملة ، وتهتبل الموسم كله . هكذا كان هدي سيد
الورى صلى الله عليه وسلم مع رمضان ؛ إذ قام صلى الله عليه وسلم بالعديد من الأمور
قبله ، لعل من أبرزها :
* إكثاره صلى الله عليه وسلم من الصيام في شعبان[1] . قالت عائشة : « لم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان ،
كان يصوم شعبان كله ، كان يصوم شعبان إلا قليلاً »[2] .
* تبشيره صلى الله عليه وسلم أصحابه بقدومه وتهيئتهم للاجتهاد فيه
بذكر بعض خصائصه وتضاعف الأجور فيه ؛ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا كان
أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن ، وغلقت أبواب النار فلم يفتح
منها باب ، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، وينادي منادٍ : يا باغي الخير
أقبل ! ويا باغي الشر أقصر ! ولله عتقاء من النار ، وذلك كل ليلة »[3] .
* بيانه صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعض الأحكام الشرعية المتعلقة
بالصيام : وفي هذه المقالة جملة من ذلك .
* عدم دخوله صلى الله عليه وسلم في صيام رمضان إلا برؤية شاهد أو
إتمام عدة شعبان ثلاثين ، عن ابن عمر قال : « تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله
صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصامه ، وأمر الناس بصيامه »[4] .
فأين أنت من التهيؤ لرمضان قبل نزوله ، فهو ضيف غنيمة لهذه الأمة ،
ينزل عليهم ، فيذكر غافلهم ، ويعين ذاكرهم ، وينشِّط عالمهم ، ويشحذ همهم للطاعات
، فتمتلئ مساجدهم ، وتجود نفوسهم ، وينتصر مجاهدهم .. فما أحقه بأن تعدّ العدة
لاستقباله !
ثانياً : أحواله صلى الله عليه وسلم مع ربه في رمضان :
كان نبي الهدى عليه الصلاة والسلام أعرف الخلق بربه
سبحانه ، وأعظمهم قياماً بحقه .. تدرج في سلم الكمال البشري فبلغ مبلغاً يعجز عن
فهمه أكثر العالمين ، فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ! ثم هو يقوم من
الليل حتى تنتفخ وتتفطر قدماه . كان له صلى الله عليه وسلم بكاء المذنبين وأنين
العاصين ودعاء المكروبين . وأحواله مع ربه في رمضان أنموذج حي يصوِّر عبادته صلى
الله عليه وسلم وأشكال خضوعه لبارئه فينطق محدِّداً جوانب عدة ، أبرزها :
* صيامه صلى الله عليه وسلم
لشهر رمضان : وهذا بيِّن ، والمراد من إيراده
مع بداهته التذكير بشيء من صفة صيامه صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك :
1 - سحوره صلى الله عليه وسلم ،
وتأخيره للسحور ، حيث كان صلى الله عليه
وسلم يتناوله قبل أذان الفجر الثاني بقليل ، وكذا إفطاره ، وتعجيله للإفطار ، حيث
كان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي المغرب ، وكان يفطر على رطب أو تمر أو
ماء . وأيضاً : تواضع إفطاره وسحوره صلى الله عليه وسلم .
ندرك هنا أن التكلف الذي نشهده اليوم في إفطار الناس وسحورهم هو أبعد
شيء عن هديه صلى الله عليه وسلم ؛ ذلك أنه يوسّع حظ النفس بما يلهي ويثقل عن
الطاعة . فحري بالكيس الحازم أن يضبط الأمر ويحدَّ منه ، دون التذرع بالواهي من
الحجج ، من تناول الطيب وإكرام الضيف .. بما يفوت خيراً كثيراً . وليتأس بنبيه صلى
الله عليه وسلم فيما عرف من أحواله .
2 - دعاؤه صلى الله عليه وسلم
عند الإفطار ، بقوله : « ذهب الظمأ ، وابتلت
العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله »[5] .
3 - سواكه صلى الله عليه وسلم
في حال الصيام ، لما رُوِيَ عن عامر بن ربيعة
قال : « رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم »[6] .
4 - صبه صلى الله عليه وسلم
الماء على رأسه وهو صائم ، لحديث أبي بكر
ابن عبد الرحمن قال : « عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : لقد رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرْج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من
الحر »[7] .
5 - وصاله صلى الله عليه وسلم
الصيام أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على
العبادة[8] . عن أنس أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : « لا تواصلوا .
قالوا : إنك تواصل ، قال : لست كأحد منكم ، إني أُطعم وأُسقى أو إني
أبيت أُطعم وأُسقى »[9] .
6 - سفره صلى الله عليه وسلم في رمضان ، وصومه صلى الله عليه وسلم في
حين وفطره في آخر . عن طاوس عن ابن عباس قال : « سافر رسول الله صلى الله عليه
وسلم في رمضان فصام حتى بلغ عسفان ، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهاراً ليريه الناس
فأفطر حتى قدم مكة ، قال : وكان ابن عباس يقول : صام رسول الله صلى الله عليه وسلم
في السفر وأفطر ، فمن شاء صام ومن شاء أفطر [10] . قال ابن القيم : « ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تقدير
المسافة التي يفطر فيها الصائم بحدِّ ، ولا صح عنه في ذلك شيء ... وكان الصحابة
حين ينشئون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت ، ويخبرون أن ذلك سنته وهديه
صلى الله عليه وسلم ... قال محمد بن كعب : أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد
سفراً ، وقد رُحِّلت له راحلته ، ولبس ثياب السفر ، فدعا بطعام فأكل ، فقلت له :
سنة ؟ قال : سنة ، ثم ركب » [11] .
ومهما نقل عن أئمة الفقه ، وأهل العلم في الأفضل من الفطر ، أو الصوم
في السفر فيبقى أن الصوم والفطر في السفر ، كل ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم ،
وهذا ما ينبغي أن يراعيه المتعجلون بالإنكار على المفطرين أو الصائمين في السفر ..
فلكل مأخذه وحجته .
7 - خروجه صلى الله عليه وسلم من الصيام برؤية محققة أو بإتمام الشهر
ثلاثين ، يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ،
وانسكوا لها ، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين ، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا »[12] .
هذه بعض الجوانب التي تجلي للمسلم شيئاً من صفة صومه صلى الله عليه
وسلم ، والتي يظهر صلى الله عليه وسلم من خلالها حريصاً على الإتيان بمستحبات
الصوم وآدابه . وهذا ما يدفع المسلم إلى أن يتأمل في صيامه ، ويعمل على تحسين حاله
، ليكون أشد تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثر قرباً منه .
* قيامه صلى الله عليه وسلم الليل في رمضان . ولعل أبرز ما تميز به
قيامه صلى الله عليه وسلم ما يلي :
1 - أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في قيامه على إحدى عشرة ركعة
، أو ثلاث عشرة ركعة ، كما يدل لذلك حديث عائشة قالت : « ما كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة »[13] ، وحديثها الآخر قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي
بالليل ثلاث عشرة ركعة ، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين»[14] .
2 - أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقوم الليل كله ، بل كان يخلطه
بقراءة قرآن وغيره ، يدل لذلك حديث عائشة قالت : « ولا أعلم نبي الله صلى الله
عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا قام ليلة حتى أصبح ، ولا صام شهراً كاملاً
غير رمضان »[15] ، وحديث ابن عباس ، وفيه : «
وكان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ ، يعرض عليه صلى الله عليه وسلم
القرآن »[16] .
3 - أن غالب قيامه صلى الله عليه وسلم كان منفرداً ؛ خشية أن يُفرض
القيام على أمته . لقد كان شديد الخوف أن يفرض عليها القيام فيقصِّر فيه أناس
فيأثموا .. هذا مع شدة حرص صحابته الكرام على أن يقوم بهم غالب الليل أو كله ،
لكنه ينظر لمن بعدهم ، وكأنه يرى ضعفنا وشدة عجزنا . وفي هذا درس بليغ للدعاة أن
يجمعوا مع الاجتهاد وبذل غاية الوسع في هداية الأمة ودعوتها .. خوفاً شديداً من
وقوعها في الإثم رحمة بها .
4 - إطالته صلى الله عليه وسلم لصلاة القيام ؛ فقد سئلت عائشة : كيف
كانت صلاة رسول الله في رمضان ؟ فقالت : « ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على
إحدى عشرة ركعة : يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي أربعاً فلا تسل
عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثاً ، فقلت : يا رسول الله ، أتنام قبل أن توتر ؟
قال : يا عائشة ! إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي »[17] .
وبذا يتجلى لنا خطأ كثير من الحريصين على الاقتداء به صلى الله عليه
وسلم ، والذين يحرصون على التأسي به في العدد دون الكيفية : من إطالة وخشوع
وطمأنينة ، نسأل الله تعالى التوفيق للصواب .
* مدارسته صلى الله عليه وسلم القرآن مع جبريل عليه السلام فعن ابن عباس : « كان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى
ينسلخ يعرض عليه صلى الله عليه وسلم القرآن »[18] . وفي رواية : ( فيدارسه )[19] : وهذه صيغة فاعلة تفيد وقوع الشيء من الجانبين[20] .
فإذا كان هذا الحرص وتلك العناية بمدارسة القرآن ممن جمع الله له
القرآن في صدره ، وتولى تفهيمه إياه ، فما أحوجنا إلى مثل هذه المدارسة لننعم
بهداية القرآن الكريم ؟
* تواضعه وزهده صلى الله عليه وسلم : وشواهده كثيرة ، منها : سيلان ماء المطر من سقف المسجد على مصلاه
صلى الله عليه وسلم وسجوده في ماء وطين[21] ، وصلاته صلى الله عليه وسلم قيام الليل على حصير[22] ، واعتكافه صلى الله عليه وسلم في قبة تركية على سدتها حصير [23] ، واعتكافه صلى الله عليه وسلم في بيت من سعف[24] ، وتواضع فطوره وسحوره صلى الله عليه وسلم ، كما تقدم ، ومنها : قلة
طعامه صلى الله عليه وسلم . قال عبد الله بن أنيس : « ... فأُتي [أي : النبي صلى
الله عليه وسلم في رمضان] بعشائه فرآني أكفُّ عنه من قلِّته ... »[25] .
ومن هذا يتبين أن الأقرب إلى هديه صلى الله عليه وسلم هو التواضع
والزهد ( وهو : ترك ما لا ينفع في الآخرة ) ، والتقلل من نعيم الدنيا ، والحرص على
الاخشيشان والبذاذة والتبسط وترك التكلف الذي يكون دافعه تواضع القلب لله تعالى
وإخباته له ، وإقباله عليه ، وطمأنينته ورضاه به ، وتعلقه بنعيم الآخرة الباقي ،
وهذه حقيقة الزهد ، لا أن نترك ذلك ظاهراً والقلوب شغوفة متطلعة إليه مشغولة به ،
فتلك عبودية الدنيا كعبودية الدرهم والدينار .
* إكثاره صلى الله عليه وسلم من الإحسان والبر والصدقة . قال ابن عباس : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ،
وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من
رمضان ، فيدارسه القرآن ، فلَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل
أجود بالخير من الريح المرسلة »[26] . وعلة زيادة جوده صلى الله
عليه وسلم في رمضان : « أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس ، والغنى
سبب الجود »[27] .
إنه أثر القرآن .. وثمرة الزهد ، وكفى ! !
* جهاده صلى الله عليه وسلم في رمضان ، وجعله منه شهر بلاء وبذل
وفداء ، ويتجلى ذلك بأمرين :
الأول : غزوُه صلى الله عليه وسلم
للمشركين في رمضان ، وكون أعظم انتصاراته صلى الله عليه وسلم وأجلّها والمعارك
الفاصلة التي تمت في حياته كانت فيه . قال أبو سعيد الخدري : « كنا نغزو مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم في رمضان»[28] ، وقال عمر بن الخطاب قال : « غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في رمضان غزوتين يوم بدر والفتح ، فأفطرنا فيهما »[29] .
الثاني : السرايا
والبعوث العديدة التي كانت في رمضان ، وهي كثيرة[30] .
وجهاده صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع اجتهادهم في العبادات الأخرى
دلالة على أثر الصيام الإيجابي فيما يورثه لصاحبه من قوة في النفس تورث قوة في
الجسد .
على أن ما يحتاجه الجسم من الغذاء أقل مما نتصوره اليوم ، وإنما تخور
قوى الصائمين المترفين الذين ألفوا الملذات فجهدت نفوسهم بغياب ملذاتها وشهواتها
وتأخرها عنهم ؛ إذ لنفوسهم على قلوبهم غلبة وسلطان ،
والله المستعان .
اعتكافه صلى الله عليه وسلم وخلوته بربه سبحانه : والمتأمل في حاله في الاعتكاف يلحظ ما يلي :
1 - اعتكافه صلى الله عليه وسلم في المدينة في رمضان من كل سنة ،
وتقلبه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف في كل عشر من الشهر ، ثم استقراره في آخر
الأمر على الاعتكاف في العشر الأواخر منه ، لإدراك ليلة القدر .
2 - أمره صلى الله عليه وسلم بأن يُضرب له خباء في المسجد يلزمه يخلو
وحده فيه بربه »[31] . قال ابن القيم : « كل هذا
تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه ، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة
ومجلبة للزائرين ، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم ، فهذا لون ، والاعتكاف النبوي
لون ، والله الموفق »[32] .
3 - دخوله صلى الله عليه وسلم معتكفه إذا صلى فجر اليوم الأول من
العشر التي يريد اعتكافها ، يدل لذلك قول عائشة : « كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ، ثم دخل معتكفه »[33] .
4 - حرصه صلى الله عليه وسلم وهو معتكف على حسن مظهره ونظافة جسده ،
كما في ترجيل عائشة شعره .
5 - زيارة أزواجه صلى الله عليه وسلم في حال اعتكافه وحديثه معهن ،
يدل لذلك حديث صفية قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته
أزوره ليلاً فحدثته ثم قمت ... »[34] .
6 - عدم خروجه صلى الله عليه وسلم من معتكفه إلا لحاجة ، يدل لذلك
قول عائشة : أنه صلى الله عليه وسلم « كان لا يدخل البيت إلا لحاجة ، إذا كان
معتكفاً »[35] وربما أخرج بعض جسده من
المعتكف لحاجة ، كترجيل رأسه[36] .
7 - خروجه صلى الله عليه وسلم من معتكفه مصبحاً لا ممسياً من الليلة
التي تلي اعتكافه ، كما في حديث أبي سعيد الخدري « أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان ، فاعتكف عاماً حتى إذا كان ليلة إحدى
وعشرين ، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه » [37] .
وفي اعتكافه صلى الله عليه وسلم وانقطاعه من نفسه ليجتهد في ذكر ربه
وعبادة مولاه مع كونه المنتصب لدعوة الناس القائم بشؤون الأمة : دليل على مسيس
حاجة الدعاة إلى أوقات خلوة ومراجعة ومحاسبة ، وإن التقصير في ذلك يرسخ عيوب النفس
ويزيد أمراضها ، حتى تكون مزمنة ، كما أن حرمان القلب من زادِهِ مورث لقسوته
وغفلته وقلة بصيرته وفُرقَانه ، وأيضاً فإن ترك استمداد عون المعين طريق الخذلان .
ومن أفضل السبل لتدارك ذلك : الخلوة بالنفس لتجديدها ، ولا أفضل من الاعتكاف
لتحقيق ذلك . وقد كثر في الناس ترك هذه السنة المباركة ، قال الإمام الزهري : «
عجباً للمسلمين ! تركوا الاعتكاف ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ، ما تركه منذ
قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل » [38] .
* حرصه صلى الله عليه وسلم على تحري ليلة القدر .
* اجتهاده صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر وتركه النوم في
لياليها .
قالت عائشة : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا
الليل ، وأيقظ أهله ، وجد وشد المئزر » [39] .
* حرصه صلى الله عليه وسلم على مخالفة أهل الكتاب في أعمال رمضان ،
وهذا بيِّن من قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يزال الناس بخير ما عَجَّلُوا
الفطْر . عَجِّلُوا الفطر فإن اليهود يؤخرون »[40] .
* إكثاره صلى الله عليه وسلم من العمل في رمضان في آخر حياته . عن
أبي هريرة قال : « كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة ،
فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه ، وكان يعتكف كل عام عشراً ، فاعتكف عشرين
في العام الذي قبض فيه »[41] .
تلك معالم بارزة وصور مضيئة في صون الحبيب صلى الله عليه وسلم لأشرف
علاقة في حياة الإنسان ، وتحقيقه لغاية المحبة لمولاه عز وجل بقيامه بأمره ورعايته
لدينه وتكميله لطاعته . إنها النبراس لسالك الصراط المستقيم ، من حاد عنها اضطرب
أمره وتفرق شأنه ، ولم يزل في عوج ولُجَج حتى يبغي طريقاً إلى سنته صلى الله عليه
وسلم .
ثالثاً : أحواله صلى الله
عليه وسلم مع زوجاته في رمضان : من
تتبع حاله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته في رمضان علم مدى التوازن الضخم الذي كان
محققاً له صلى الله عليه وسلم في حياته ؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم كما وصف نفسه
: « إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا »[42] ، « خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي » [43] . وتبرز أحواله مع أهله مما يلي :
* تعليمهن : ومن ذلك : أن
عائشة قالت : يا رسول الله ، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال
: « قولي : اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني »[44] ، وحديثها « أنه صلى الله عليه وسلم قال : إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل
، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال ، وكان بلال يؤذن حين يرى الفجر »[45] ، بل إن إخبارهن بجانب من عشرتهن وما علمنه من حاله صلى الله عليه
وسلم كان طريق الأمة لمعرفة كثير من هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان وذلك لا
يخفى .
* حثه صلى الله عليه وسلم لهن على فعل الخير وإتيان العمل الصالح ؛
حيث أرسل إليهن للصلاة مع الناس خلفه [46] .
من هذه الآثار ندرك حكمة من حِكَم تعدد أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم وكثرتهن مع انشغاله بأمر الأمة ؛ فقد كان ذلك جزءاً أساساً من عملية إرشاد
الأمة وتعليمها الإسلام كافة بكل جوانبه الشمولية ، ولم يكن شيء من ذلك يتحقق لولا
عنايته عليه الصلاة والسلام بتعليمهن : إرشاداً وتوجيهاً وإجابة وبياناً وترغيباً
وترهيباً . وهذا فوق أنه منطلق دعوي مهم ، فهو رعاية للمسؤولية الأولى ، وحفظ
لكيان البيت والأسرة من الجهل والكسل .
فَحَيَّ على أسركم يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم و { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ } (
التحريم : 6 ) .
* حسن عشرته صلى الله عليه وسلم لهن . ومن الأمور الدالة على ذلك :
1 - مواقعته صلى الله عليه وسلم لهن في غير العشر الأواخر ، يشهد
لذلك حديث عائشة قالت : « كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا
ليله وأيقظ أهله »[47] ، قال ابن حجر : « قوله : شد
مئزره : أي : اعتزل النساء » [48] .
2 - تقبيله صلى الله عليه وسلم لزوجاته ومباشرته لهن وهو صائم ، قالت
عائشة : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل في شهر الصوم » [49] ، وسألها الأسود و مسروق : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر
وهو صائم ؟ قالت : « نعم ، ولكنه كان أملككم لإربه » [50] .
3 - مراعاته صلى الله عليه وسلم لهن وحرصه على الاستقرار الأسري ؛ إذ
ترك الاعتكاف في سنة كما تقدم ، خشية على نسائه من أن يقع بينهن أو في نفوسهن شيء [51] .
4 - زيارة نسائه صلى الله عليه وسلم له في معتكفه وتبادله الحديث
معهن ساعة ، وخوفه صلى الله عليه وسلم عليهن وحمايته لهنَّ ، قالت صفية : « كان
صلى الله عليه وسلم في المسجد وعنده أزواجه فَرُحْن ، فقال لصفية بنت حيي : لا
تعجلي حتى أنصرف معك ، وكان بيتها في دار أسامة ، فخرج صلى الله عليه وسلم معها »[52] .
5 - اعتناؤه صلى الله عليه وسلم بمظهره وتنظيفه لجسده .
فأين هذا ممن حظ أهله من أخلاقه أسوؤها ، ومن أوقاته آخرها ، ومن
تفكيره فضلته ، ومن اهتمامه ثمالته .. حتى ما عادوا يطمعون في بره ، ولا يأملون في
خيره ؟ ! ثم هو يرجو منهم براً وإحساناً ! إنك لا تجني من الشوك العنب ! .
* خدمة نسائه صلى الله عليه وسلم له ، ومن ذلك :
تغسيل زوجه صلى الله عليه وسلم رأسه وترجيلها لشعره وهو
صلى الله عليه وسلم معتكف كما عرف ، وضرب زوجه الخباء له صلى الله عليه وسلم في
المسجد ليعتكف فيه[53] ، وضرب زوجه الحصير له صلى
الله عليه وسلم ليصلي عليه وطيها له[54] ، ومنه : إيقاظ أهله صلى
الله عليه وسلم له ، كما في حديث أبي هريرة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: أُريت ليلة القدر ، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها ، فالتمسوها في العشر الغوابر »[55] .
* إذنه صلى الله عليه وسلم لزوجاته بالاعتكاف معه .
* قيامهن ببعض العبادات معه صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك :
1 - الاعتكاف ؛ والظاهر أن غالب زوجاته لم يكن يعتكفن معه صلى الله
عليه وسلم في حياته ، أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فالظاهر اعتكافهن بعده ،
يدل لذلك حديث عائشة : « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من
رمضان حتى توفاه الله ، ثم اعتكف أزواجه من بعده »[56] .
2 - قيام الليل في بعض ليالي رمضان جماعة في المسجد ، يدل لذلك حديث
أبي ذر ، وفيه : « ثم لم يصلِّ بنا حتى بقي ثلاث من الشهر وصلى بنا في الثالثة ،
ودعا أهله ونساءه فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح ، قلت له : وما الفلاح ؟ قال :
السحور » [57] .
* زواجه صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه في رمضان . كزينب بنت خزيمة
أم المساكين [58] ، و حفصة ، و زينب بنت جحش ،
[59] .
وبعد : فإن من أوكد الواجبات بداية الرجل عموماً والداعية خصوصاً
بتعليم أهله وقرابته ، قال تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } ( الشعراء : 214 ) ، وإذا كان إنفاق الرجل على أهله أفضل من الصدقة وأعظم منها أجراً [60] ، فإن تعليمه
وحسن معاملته لهم أفضل وأعظم أجراً من تقديم ذلك لغيرهم مع الأهمية في كلٍ ، فنحن
بحاجة إلى إحياء شعار : « ابدأ بمن تعول » [61] ، مع بَعْثِ منهج التوازن والوسطية النبوية التي لا تهمل جانباً على
حساب آخر .
رابعاً : أحواله صلى الله
عليه وسلم مع أمته في رمضان : حاله
صلى الله عليه وسلم مع أمته في رمضان هو جزء لا يخرج عن الصورة العامة لهديه في
سائر العام ، مع مزيد توجيه وتعليم فيما يخص رمضان .
وقد تقلب صلى الله عليه وسلم مع صحابته في هذا الشهر بين أحوال عدة ،
جملتها فيما يأتي :
* تعليمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه . ومن ذلك : حديث شداد بن أوس «
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع ، وهو يحتجم ، وهو آخذ بيدي
، لثماني عشرة خلت من رمضان ، فقال : أفطر الحاجم والمحجوم »[62] .
والتعليم مهمة الأنبياء وأتباعهم ، قال صلى الله عليه وسلم : « إن
الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ، ولكن بعثني معلماً ميسراً » [63] ، وقال الأسود بن يزيد : « أتانا معاذ بن جبل اليمن معلماً وأميراً »
[64] ، وهي مهمة شريفة عليَّة
الرتبة ، بها يرتفع شأن صاحبها ، ويعظم أجره ، ويزيد برُّه ، ويعم خيره ، ويبقى
ذكره ... وللدعاة في رمضان فرصة دعوية سانحة حريّة بالاغتنام مع بذل غاية الجهد في
تعليم الناس وتفقيههم وتعريفهم حقيقة الإسلام والإيمان ، واستغلال إقبالهم على
المساجد في استصلاح قلوبهم وأعمالهم .
* إرشاده صلى الله عليه وسلم لأصحابه وتوجيهه ووعظه لهم . ومن ذلك :
حديث ابن عمر قال : « اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من
رمضان ، فاتُّخِذَ له فيه بيت من سعف ، قال : فأخرج رأسه ذات يوم ، فقال : إن
المصلي يناجي ربه عز وجل فلينظر أحدكم بما يناجي ربه ، ولا يجهر بعضكم على بعض
بالقراءة » [65] .
* تحفيزه صلى الله عليه وسلم لأصحابه على المبادرة في العمل الصالح
وبيان ثواب ذلك لهم . ومنه : حديث أبي هريرة في الحث على الصيام ، وفيه : « والذي
نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك يترك طعامه وشرابه
وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها »[66] .
وتحفيزه صلى الله عليه وسلم : دليل على حرصه على نفع صحبه الكرام ،
وعلى أن النفوس مهما بلغت من الكمال والمسابقة في الخيرات لا تستغني عن النصح
والتوجيه ترغيباً وترهيباً . وقد أفرط قوم في ذلك فصار حديثهم يكاد لا يخرج عن ذلك
في رمضان وغيره ! حتى ألفته النفوس وملَّته ، وفرّط آخرون فصار حديثهم جافاً
غليظاً لما أهملوا خطاب القلوب وتحريك العاطفة ، في الوقت الذي أهمل فيه الأولون
خطاب العقل وتحريك الفكر . ومنهج القرآن بين هذين ، فليكن لأتباعه منهجاً .
* إفتاؤه صلى الله عليه وسلم لمن سأله من أصحابه ، وعدم معاتبته لمن
أذنب وجاء تائبا مستفتياً . فعن عائشة قالت : « أتى رجل إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم في المسجد في رمضان ، فقال : يا رسول الله ! احترقت احترقت ! فسأله رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما شأنه ؟ فقال : أصبت أهلي ، قال : تصدَّق ، فقال :
والله يا نبي الله ! ما لي شيء وما أقدر عليه ، قال : اجلس فجلس ، فبينا هو على
ذلك أقبل رجل يسوق حماراً عليه طعام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أين
المحترق آنفاً ؟ فقام الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصدق بهذا ، فقال
: يا رسول الله ! أغيرنا ؟ فوالله ! إنا لجياع ما لنا شيء ! قال : فكلوه » [67] ، ومثله حديث سلمة بن صخر الأنصاري[68] .
وهذا الموقف وأشباهه في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم داع
لحَمَلةِ رسالته أن تمتلئ قلوبهم رحمة بالمدعوين تورث رقة في التعامل معهم ،
ورفقاً بسائلهم ، وشفقة على مذنبهم . تلك الميزة التي تضعف لدى بعض المنتسبين
للعلم والدعوة والإصلاح حيث يظنون أن المقصر لا يستحق إلا التوبيخ والتقريع والذم
والإسقاط جزاء تقصيره ، ويغيب عن أذهانهم هديه صلى الله عليه وسلم وصنيعه مع من
واقع زوجته في رمضان ، وغير ذلك كالذي بال في المسجد ، والذي تكلم في الصلاة ؛ بل
حتى مع من طلب الإذن له بالزنا ! والدافع إلى ذلك كله الرغبة في هداية الخلق
ورحمتهم والعطف عليهم . ويتأكد الأمر في رمضان حين يقبل عامة الناس على المساجد ،
وتكثر أسئلتهم عن أحكام الصيام ، وعما اقترفوا من الذنوب ... إن هؤلاء يفتقرون إلى
قلوب حانية رقيقة تمسح موضع الداء بلطف ، وتعالجه برفق وتخفف المصاب حتى يظهر
للمخطئ الصواب ، فيعود إليه .
* إمامته صلى الله عليه وسلم بالناس . وقد أَمَّ أصحابه في قيام
الليل في بعض ليالي رمضان ، وما منعه من الاستمرار إلا خشيته صلى الله عليه وسلم
من أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها .
* خطبته صلى الله عليه وسلم فيهم وحديثه إليهم عقب بعض الصلوات[69] .
* جعله صلى الله عليه وسلم من نفسه قدوة لأصحابه ، ومن الدلائل على
ذلك :
1 - خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ليصلي فيه من الليل ، كما
في حديث عائشة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في
المسجد وصلى رجال بصلاته ... »[70] .
2 - اعتكافه صلى الله عليه وسلم لتحري ليلة القدر ، وحثه لأصحابه على
ذلك .
* إفطاره صلى الله عليه وسلم في السفر بعد العصر ليراه أصحابه ، وذلك
بعد أن بلغ بهم الجهد مبلغه .
إن بإمكان الداعية أن يدبج خطباً رنانة ومواعظ بليغة لكنها لن تجد
طريقها إلى القلوب كما لو رأت العيون ذلك برؤيتها تطبيق ما سمعت الأذن .
* رحمته صلى الله عليه وسلم بأصحابه . ومن الأمور الدالة على ذلك :
1 - أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالإفطار في السفر قبل ملاقاة
العدو ، فعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : « رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم أمر الناس في سفره عام الفتح بالفطر ، وقال : تقووا لعدوكم . وصام رسول
الله صلى الله عليه وسلم »[71] .
ومن رحمته : نهيه صلى الله عليه وسلم لأصحابه عن الوصال رحمة بهم ،
وحثه صلى الله عليه وسلم لأصحابه على تعجيل الفطر وتناول السحور ، وتركه صلى الله
عليه وسلم الصلاة بأصحابه جماعة في قيام الليل خشية من أن تفرض عليهم ، وتخفيفه
صلى الله عليه وسلم الصلاة حين كان إماماً بهم .
* حثه صلى الله عليه وسلم لأصحابه على طهارة النفس وتوقي الذنوب .
ولذا قال : « رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ، ورب قائم حظه من قيامه السهر »[72] .
لقد توجهت عناية كثير إلى إصلاح الظاهر والشدة فيه وإنكار المعاصي
والذنوب الجليَّة ، مع ضعفٍ في تناول ذنوب القلب وأمراضه التي تورث ذنوب الجوارح ،
مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح
الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب »[73] ، وهذا يعني أن من الصعب النجاح في إصلاح الظاهر ما لم يُعتن بالباطن
العناية التي يستحقها مع تجنب إهمال الظاهر ، حتى يتهيأ لنظرة الرضى من الرب تعالى
؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر
إلى قلوبكم وأعمالكم »[74] .
* مخالطته صلى الله عليه وسلم لأصحابه واستماعه إليهم وعدم ترفعه
عنهم .ومضى من هذا كثير .
ومخالطة الداعية للناس شرط لا يتحقق التأثير والإصلاح بدونه .
والمخالطة ليست مرادة لذاتها ، وإنما لما تثمره من تعليم للخير ، وتوجيه نحو
الصواب والأفضل ، وتصحيح للمفاهيم ، ووقوف على الخطأ ، وتهذيب للسلوك ، ومعاونة
على الخير وتقوية لأهله ، فالمهم هو المخالطة الواعية الموظَّفة توظيفاً حسناً .
كما أن من المهم أن لا يستغرق الداعية في المخالطة حتى تذهب الهيبة ، وتفقد
المخالطة روحها ، وحتى ينسى نفسه وأهله ، ولذا اعتنى الداعية الأول صلى الله عليه
وسلم بالاعتكاف ؛ لما يحقق من عزلة وخلوة لا غنى للداعية الرصين عنها . فليتوازن
الداعية ، والله المعين .
* تأديبه صلى الله عليه وسلم لمن خشي عليه التعمق ، كما واصل بمن
أبوا إلا الوصال [75] . إن شريعة الإسلام شريعة
اليسر والسهولة « ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه » [76] ، ولطالما تواردت النصوص على هذا الأصل : أصل التيسير ورفع الحرج ..
وهذه خاصية الدين الواقعي الملائم للفطرة ، والذي أراد الله لهالبقاء حتى تقوم
الساعة .
وتنكيله صلى الله عليه وسلم بمن أرادوا الوصال ينسجم مع ذلك الأصل ؛
إذ خشي صلى الله عليه وسلم عليهم العنت والمشقة ، لكن لما كانت بعض النفوس لا
يكفيها الكلام احتاج صلى الله عليه وسلم إلى العقوبة ، ولم تكن تلك العقوبة على
أمر محرم ، فلو كان محرماً ما فعلوه ، ولما أقرّهم عليه ، بل إنه زادهم من جنس ما
رغبوا فيه ، حتى يدركوا الفرق بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم .
* استقباله صلى الله عليه وسلم لمن وفد عليه . قال ابن إسحاق : «
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك ، وقدم عليه في ذلك الشهر وفد
ثقيف »[77] .
إن مخالطته صلى الله عليه وسلم للناس في رمضان صفحة من جهده الدعوي
فيه ، وهو ما يحتاجه الدعاة للتأسي به .
* أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بإخراج زكاة الفطر من رمضان .
* إيكاله صلى الله عليه وسلم بعض الأعمال إلى أصحابه ، كما وكّل أبا
هريرة بحفظ زكاة رمضان[78] .
وفي هذا تخفيف من الجهد عليه ؛ لأن الشخص بمفرده لا يطيق القيام
بجميع المهام ، فلا مفرّ من توكيل الآخرين وتفويضهم في القيام بالأعمال وإنجاز
المهام ، وهذا يعكس في الوقت نفسه ثقة الداعية في أصحابه ، وهكذا كان صلى الله
عليه وسلم يعامل صحبه الكرام ، حتى كانوا رجال أمة ودولة .
وأخيراً : فأحسب تلك
الصفحات قد أطلعتنا على جزء يسير من سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم . فما أمسَّ
حاجتنا إلى التنعم في ظل سيرته صلى الله عليه وسلم والعيش مع أخباره ، والتعرف على
أحواله ، وترسم هديه وطريقته ... كيف لا ؛ وذلك الطريق هو السبيل الأوحد لنيل محبة
الخالق تعالى والقرب منه ، كما قال عز وجل : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ( آل عمران : 31 ) .
(*) أصل هذا المقال دراسة مطولة أعدها الكاتب مؤخراً ، والعدد ماثل
للطباعة ، فآثرنا لمناسبة الشهر الاكتفاء بما تسمح به المساحة المتاحة ، متجاوزين
كثيراً من التفاصيل ، مكتفين بالإشارة عن العبارة .
(1) راجع في حكمة ذلك : الفتح ، 4/ 253 .
(2) مسلم (1156) .
(3) الترمذي (682) ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (549) .
(4) أبو داود (2342) ، وقال محقق الزاد : 2/38 (وسنده قوي) .
(5) أبو داود (2375) ، وحسنه الألباني في صحيح السنن : (2066) .
(6) الترمذي (725) ، والحديث مختلف فيه والاختلاف في الحديث لا
تعلق له بمشروعية السواك للصائم ؛ لعموم الأمر انظر : صحيح ابن خزيمة ، 3/ 247 .
(7) أبو داود (2365) ، وصححه الألباني في صحيح السنن (2072) .
(8) انظر : زاد المعاد ، لابن القيم : 2/ 32 .
(9) البخاري (1961) .
(10) البخاري (4279) .
(11) زاد المعاد 2/ 55 56 ، وأثر ابن كعب أخرجه الترمذي (799) ،
وقال : (حديث حسن) ، وصححه الألباني في صحيح السنن 641 .
(12) النسائي (2116) ، وصححه الألباني في صحيح السنن (1997) .
(13) البخاري (1147) .
(14) البخاري (1164) ، والناظر في عصرنا يجد اختلافا شديدا حول عدد
صلاة التراويح ، وحين نتأمل في هديه صلى الله عليه وسلم نجد أنه لم يوقت لأمته في
قيام رمضان حداً محدوداً وإنما حثهم على القيام فقط ، فدل على التوسعة في هذا
الأمر ، وأن بإمكان المسلم أن يفعل ما يستطيع من ذلك بخشوع وخضوع وطمأنينة ، وإن
كان الأفضل هو التأسي بفعله صلى الله عليه وسلم من حيث الكم والكيف ، والله أعلم ،
انظر : مع الرسول في رمضان لعطية محمد سالم .
(15) المسند لأحمد (24268) ، وقال محققوه : إسناده صحيح على شرط
الصحيحين .
(16) البخاري (1902) .
(17) البخاري (2013) .
(18) البخاري (1902) .
(19) البخاري (6) .
(20) انظر : فتح الباري لابن حجر : 8/ 659 .
(21) البخاري (2018) .
(22) أبو داود (1374) ، وقال الألباني في صحيح السنن (1226) : حسن
صحيح .
(23) ابن ماجة (1775) ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (1437) .
(24) المسند لأحمد (5349) و قال محققوه : حديث صحيح .
(25) أبو داود (1379) ، وقال الألباني في صحيح السنن (1230) : حسن
صحيح .
(26) البخاري (3220) .
(27) فتح الباري : 1/41 ، وانظر 4/ 139 .
(28) مسلم (1116) .
(29) الترمذي (714) ، قال الأرنؤوط في تحقيقه للمسند (140) : حديث
قوي .
(30) انظر مثلاً : المغازي للواقدي : 1/ 9 ، 174 ، 39 ، الطبقات لابن
سعد : 2/ 6 ، 27 ، 91 .
(31) ابن ماجة (1775) ، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة (1437) .
(32) زاد المعاد لابن القيم : 2/ 90 .
(33) مسلم (1173) .
(34) البخاري (3039) .
(35) البخاري (2029) .
(36) البخاري (1890) .
(37) البخاري (2027) ، وانظر : صحيح ابن خزيمة : 3/ 352 .
(38) فتح الباري 4/ 334 .
(39) مسلم (1174) وقد ورد في المسند : 6/146 بسند ضعيف عن عائشة
رضي الله عنها قالت : (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم
، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر وشمر) .
(40) ابن ماجة (1697) ، وقال الألباني في صحيح السنن (1378) : حسن
صحيح .
(41) البخاري (4998) .
(42) البخاري (20) .
(43) الترمذي (3895) ، وصححه الألباني في صحيح السنن (3056) .
(44) مسلم (1147) .
(45) ابن حبان (3473) ، وقال الأرنؤوط : وإسناده قوي ، وانظر : 8 /
252 253 .
(46) النسائي (1364) ، وصححه الألباني في صحيح السنن : (1292) .
(47) البخاري (2024) .
(48) فتح الباري لابن حجر : 4/ 316 سنن البيهقي : 4/314 ، قال
محققو المسند 40/ 439 : وإسناده حسن .
(49) مسلم (1106) .
(50) مسلم (1106) .
(51) انظر : فتح الباري لابن حجر : 4/324 ، المنتقى للباجي : 2/ 83
.
(52) البخاري (2038) .
(53) انظر : البخاري (2033) .
(54) انظر : المسند لأحمد (26307) ، وقال محققوه : حديث صحيح لغيره
.
(55) مسلم (1166) .
(56) البخاري (2026) .
(57) الترمذي (806) ، وقال : (حسن صحيح) ، وصححه الألباني في صحيح
السنن (646) .
(58) تاريخ الطبري : 8/545 .
(59) شذرات الذهب ، لابن العماد : 1/ 119 .
(60) البخاري (1466) .
(61) البخاري (1426) .
(62) أبو داود (2369) ، وصححه الألباني في صحيح السنن (2076) .
(63) مسلم (1478) .
(64) البخاري (6734) .
(65) المسند لأحمد (5349) ، قال محققوه : حديث صحيح .
(66) البخاري (1894) .
(67) البخاري (1935) ، مسلم (1112) ، واللفظ له .
(68) الترمذي (3299) ، وقال : حديث حسن ، وصححه الألباني في صحيح
السنن (2628) .
(69) البخاري (1129) ، مسلم (761) ، واللفظ له .
(70) البخاري (2012) .
(71) أبو داود (2365) ، وصححه الألباني (2072) .
(72) المسند لأحمد (8856) ، وقال محققوه : إسناده جيد .
(73) البخاري (52) .
(74) مسلم (2564) .
(75) مسلم (1104) .
(76) البخاري (39) .
(77) سيرة ابن هشام : 4/ 135 .
(78) البخاري (5010) .