ها
هو الشهر المبارك قد أقبل ، وستنصرم أيامه ، وتنقضي لياليه ، وكما بدأ سينتهي ،
بعد أن يجتهد المجدون ، ويتسابقوا في الخيرات ، ويصبح المخلصون يعيشون بين أمل
قبول العمل وخشية رده وحبوطه .
ولكن
في ظني أن هناك أموراً لا بد للساعين إلى الله (عز وجل) من اعتبارها والتنبه لها
بعد هذا الموسم العظيم سواء في حياتهم الشخصية أو الدعوية ؛ وذلك :لأن المطلوب من
العبد اتخاذ هذه المواسم محطات للتزود من التقوى ، ثم السير بهذا الزاد من محطة
إلى أخرى ، لا أن يجعل حياة الطاعة مقصورة على تلك المواسم ، فمتى مضت مضت طاعته
معها ! .
وليست
الإشكالية في اختلاف مقدار العبادة التي يقوم بها العبد في تلك المواسم وفي غيرها
، إذ أمر العبادة مهيأ للعبد فيها أكثر من غيرها ، فرمضان مثلاً شهر (تفتح فيه
أبواب السماء ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ، وتغل فيه مردة الشياطين)[أخرجه النسائي ،
وصححه الألباني ] ، ولذا : حين نتأمل في عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي
أمرنا الله (عز وجل) أن نتأسى به نجد أنه كان أكثر اجتهاداً في العبادة في رمضان من غيره ، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال
: (كانرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس بالخير ، وكان أجود ما يكون في
شهر رمضان) [ أخرجه مسلم ] ، وعن عائشة
(رضي الله عنها) قالت : (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر
الأواخر ما لا يجتهد في غيره)[ أخرجه مسلم ] .
وعليه
: فإن المطلوب من العبد أن يداوم على مجالات الخير التي طَرَقها في رمضان ، سواء أكانت قيام ليل أو قراءة قرآن أو صدقة
تطوع أو دعوة إلى الله (عز وجل) .. أو غير ذلك ولو بمقدار أقل ؛ لأن أحب الأعمال
إلى الله أدومها وإن قل ، ولأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما حدثت عائشة
(رضي الله عنها) : (كان إذا عمل عملاً أثبته) [اخرجه مسلم ] .
ولو
تأمل الإنسان مقدار الخسارة التي يجنيها من جراء بطالته العبادية والدعوية في غير
مواسم الخير سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى الأمة لوجدها جسيمة .
فكم
من الأوقات تمضي عليه سدًى مع أن العبد يوم القيامة يتمنى لو أضاف إلى رصيده خيراً
مهما قل مقداره وتدنّى أجره ليدرأ عن نفسه عقوبة أو ليرتفع درجة .
ولو
حسبنا مقدار الأوقات والجهود والإمكانات المضاعة من مجموع أفراد الأمة التي لو
استثمرت بشكل جيد لمصلحة الأمة في المجالات المختلفة دعوية أو غيرها لعلمنا حجم
الجناية التي تحدثها البطالة والانقطاع عن العمل العبادي في غير مواسم الخيرات على
الصعيد الشخصي والجمعي .
إن
أبرز ما في هذه المواسم المباركة ومنها رمضان
أنها تقنع العبد بأن بإمكانه أن يفعل الكثير والكثير متى ما أخذ نفسه بمأخذ الجد
وقوّى استعانته وصلته بالله (عز وجل) .
إنها
تجعل من العبد نفسه قدوة عملية لنفسه في غيرها ، إذ بإمكانه بأن يفعل في غيرها ما
فعل فيها من خيرات ، بدليل أنه فعل ! ، والتجربة خير برهان ، والواقع أكبر دليل ،
والملهيات والعوائق النفسية والاجتماعية وغيرها التي تجاوزها في موسم الخير يمكنه
تجاوزها في غيره كما تجاوزها فيه ، والدافع الذي مكنه من تجاوزها ما زال موجوداً ،
إذ الرب (سبحانه) بالمرصاد ، والجنة والنار مخلوقتان ، ولكل منهما أهلون .
فلنبادر
ونحن ما زلنا في هذا الموسم العظيم قبل أن تغلق أبواب الجنان وتفتح أبواب النار
وتُطْلق الشياطين أن نرسم لأنفسنا الخطط ، ونعد لها البرامج الخيرة التي سنسير
عليها حتى الموسم القادم ومحطة التزود الأخرى ، آخذين أنفسنا بالجد الذي ابتدأناه
في رمضان ، مستعينين بالله (عز وجل) الذي
لا حول ولا قوة لنا معاشر العباد إلا به .