لقد وَسَمَ أهل التاريخ والتراجم عدداً من الأجلاء
بكونهم ( رجال عامةٍ ) ومن هؤلاء : الصحابي الجليل عمران بن حصين - رضي الله عنه -
، وإماما أهل الشام : الأوزاعي و أبو إسحاق الفزاري ، والحافظ الثبت خالد بن عبد
الله الطحان .
ففي تاريخ الطبري : ( دعا عثمانُ بن حنيف عمران بن حصين
وكان رجلَ عامةٍ ، وألزَّه بأبي الأسود الدؤلي وكان رجلَ خاصةٍ )[1] .
وقال علي بن بكار : سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول : ( ما
رأيت مثل الأوزاعي و الثوري ! فأما الأوزاعي فكان رجل عامة ، وأما الثوري فكان
رجلَ خاصةِ نفسِهِ ، ولو خيرت لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي )[2] .
وقال إبراهيم الجوهري : ( قلت لأبي أسامة : أيهما أفضل :
فضيل بن عياض ، أو أبو إسحاق الفزاري ؟ فقال : كان فضيل رجل نفسه ، وكان أبو إسحاق
رجل عامة )[3] .
وقال إسحاق الأزرق : ( ما أدركت أفضل من خالد الطحان ،
قيل : قد رأيت سفيان ( يعني الثوري ) ؟ قال : كان سفيان رجل نفسه ، وكان خالد رجل
عامة )[4] .
فدفعني ذلك إلى حب التعرف على سمات ذلك الرجل الذي وقف
نفسه على الناس حاضراً بوضوح بينهم : يعلمهم وينصح لهم ، ويحمل همومهم ؛ ساعياً
لنفعهم ، ومتصدراً لخدمتهم وحل مشكلاتهم ، بكل رحابة صدر وبشاشة وجه ، والمزايا
التي يفضل بها على غيره من خلال مطالعة سير هؤلاء الأئمة الموسومين بذلك ، فوجدت
أنها على نوعين : نوعٍ يشترك فيه رجل العامة مع غيره من العلماء المهديين والعباد
الصالحين ، ونوعٍ يختص به هذا الصنف من القادة المصلحين والأئمة الربانيين .
ولعل من أبرز خلال النوع الأول الذي يشترك
فيه رجل العامة مع غيره ؛ ما يلي :
- كثرة الخشوع واليقظة والتقدم في العمل : إذ لا تستطيع حمل هموم الناس والعمل على نفعهم وتبنِّي
قضاياهم - مع ما في ذلك من إسقاط حظوظ النفس وتقديم المصالح العامة على المصالح
الخاصة - نفْسٌ غافلة ، وشخصية شحيحة الزاد هزيلة الراحلة ، وخير الزاد التقوى .
فمن كان رقيقَ المحبة والتعظيم لخالقه ، قليلَ الخشية
منه سبحانه ، ضعيف رجاء ما أعده الله - تعالى - لأوليائه ، مقِلاّ من تزكية نفسه
وإصلاح قلبه وتقوية الصلة بخالقه ؛ لم يقوَ على المضي الطويل في هذا السبيل على
وجهه مهما أراده وتاقت إليه نفسه .
فلا بد للرواحل من خشوع وبكاء ، واستكثار من عبادة القلب
، قال بشر بن المنذر : ( رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع)[5] ،
وقال عمرو بن عون :( ما صليت خلف ابن عبد الله إلا سمعت قطر دموعه على الباريَّة )[6] .
ولا بد للمتصدر لقضايا الناس من صلاة ، وقراءة ، وذكر ،
وطول قيام ، قال أبو مسهر : ( كان الأوزاعي يحيي الليل صلاة وقرآناً وبكاء )[7] ،
وقال الوليد بن مسلم : ( رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه ، يذكر الله حتى تطلع الشمس
، ويخبرنا عن السلف : أن ذلك كان هديهم ، فإذا طلعت الشمس ، قام بعضهم إلى بعض ،
فأفاضوا في ذكر الله ، والتفقه في دينه)[8] ،
وقال : ( ما رأيت أكثر اجتهاداً في العبادة من الأوزاعي )[9] .
ولا بد لرجل العامة الحامل لهموم الأمة من حضور قلب وبُعد
عن الغفلة ، وحذر من الاغترار بمتع الحياة وشهواتها ورضا أربابها ، سواء أكان ذلك
في الليل أم النهار ، في الحضر أم السفر . قال ابن عيينة : قال هارون الرشيد لأبي
إسحاق الفزاري : ( أيها الشيخ ! إنك في موضع من القرب ، قال : إن ذاك لا يغني عني
يوم القيامة من الله شيئاً )[10] ، وقال الوليد بن مزيد : ( كان الأوزاعي من العبادة على
شيء ما سمعنا بأحد قوِيَ عليه ، ما أتى عليه زوالٌ قطُّ إلا وهو قائم يصلي )[11] ،
ويخبر ضمرة بن ربيعة فيقول : ( حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة ، فما رأيته
مضطجعاً في المحمل في ليل ولا نهار قطّ ، كان يصلي ، فإذا غلبه النوم ، استند إلى
القَتَب)[12] ،
وعن سلمة بن سلام قال : ( نزل الأوزاعي على أبي ، ففرشنا له فراشاً ، فأصبح على
حاله )[13] .
- الزهد والورع : فُطِرَت النفوس على عدم محبة الالتفاف حول نفوسٍ نسيت
الآخرة ، وتعلقت بشدةٍ بأوحال هذه الدنيا الفانية ، وجسرت على سلوك أي طريق وخوض
أي مفازة ما دام ذلك موصلاً لها إلى تحصيل الملذات والظفر بالرئاسات .
فالزهد والورع ركيزتان أساسيتان في شخصية رجل العامة ،
إذ يُمَكِّنان المرء من احتساب الأجر ، والصبر على الأذى ، وسلامة الصدر ، ونزع
الغل ، وعدم الحديث عن النفس ، وتوقِّي رؤية العمل واستعظامه ، وحذر التعالم
والخوض فيما يُجْهَل ، وعدم انتظار الثناء والشكر ، وترك الانتقام للنفس والوقيعة
في الناس ، أو السماح للآخرين بالتكلم في مجلسه بحديث غيبة ، كما يحولان بين المرء
والمنة على الناس بما قدمه لهم وأحسن به إليهم ، أو أن يلج في المزاحمة لهم على
دنياهم .
ومن مظاهر ذلك في حياة رجال العامة ما جاء عن عمران بن
حصين - رضي الله عنه - حين كان قاضياً على البصرة ؛ أنه قضى على رجل بقضية ، فقال
: ( واللهِ ، قضيتَ عليّ بجَوْر ، وما أَلَوْتَ ، قال : وكيف ؟ قال : شُهِد عليّ
بزور . قال : فهو في مالي ، ووالله لا أجلس مجلسي هذا أبداً )[14] ،
وقال عقبة بن علقمة : ( أرادوا الأوزاعي على القضاء ، فامتنع وأبى ، فتركوه )[15] .
ولم يكن ورع هذا الصنف من الناس قاصراً على توقِّي
القضاء ، بل شمل حتى ترك الفتيا فيما لا يتيقن علمه . يقول سلمة بن كلثوم : ( كتب
أبو حنيفة إلى الأوزاعي تسعين مسألة ؛ فما أجاب منها إلا بمسألتين )[16] .
وأشد الزهد والورع على هذا الصنف من الناس ما تعلق بجانب
المال ، وذلك لما يلاقيه أحدهم من ضغط العامة وكثرة إلحاحهم وشدة احتياجهم . وفي
هذا السياق ذكر الأصمعي أن الرشيد أمر خادمه قائلاً : ( ثلاثة آلاف دينار لأبي
إسحاق .
فأُتِي بها ، فوضعها في يده وخرج ، فانصرف ، ولقيه ابن
المبارك فقال : أنا عن هذه الدنانير غني . فقال : إن كان في نفسك منها شيء فتصدق
بها ، فما خرج من سوق الرافقة حتى تصدق بها )[17] .
ولظهور هاتين السمتين الجليلتين في حياة هذا الصنف من
الناس ، انظر إلى هاتين الشهادتين الجليلتين : أورد الحافظ ابن كثير في سياق ترجمته للأوزاعي ما نصه :
( وتأدب بنفسه ، فلم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار وغيرهم أعقل
منه ، ولا أورع ، ولا أعلم ، ولا أفصح ، ولا أوقر ، ولا أحلم ، ولا أكثر صمتاً منه
، ما تكلم بكلمة إلا كان المتعيّن على من سمعها من جلسائه أن يكتبها عنه من حسنها
)[18] .
وقال الحسن بن الربيع : ( ما رأيت أورع من أبي إسحاق
الفزاري ؛ هو أفضل من معمر )[19] .
- الحلم والتواضع : وهما خصلتان مُمَكِّنتان للعبد من الاتزان والتُّؤَدة ،
والرفق واللين ، وسعة الصدر واحتمال دواعي الغضب ، والتبسم وطيب المحيا وإظهار
البشاشة ، والخلطة الواعية للناس بكافة مستوياتهم وأطيافهم ، وحسن الإنصات لهم
وسماع همومهم وقضاياهم ، والبدار بقدر المستطاع إلى معونتهم وحل مشكلاتهم ، مع الستر
عليهم ، وترك الحديث غير المسؤول عن قضاياهم . وقد كان هذا جليّاً في حياة أرباب
هذا الشأن .
يقول عطاء بن مسلم : قلت لأبي إسحاق الفزاري : ( ألا تسب
من ضربك ؟ قال : إذاً أحبه )[20] ، وقال : صدقة بن عبد الله : ( ما رأيت أحداً أحلم ولا
أكمل ولا أجمل من الأوزاعي )[21] .
وقال ضمرة : ( صليت إلى جانب الأوزاعي بمكة ، فلما قام
حرّكني ، فذهبت معه إلى منزله ، فأتانا بثريد عليه فول مسلوق ) [22] .
- الجود وكثرة التصدق : فمن لم يكن طويلَ اليد ، كثيرَ الصدقة
، كريماً باذلاً للمعروف ؛ بَغَضَه الخلقُ ، وانجفلوا عنه ؛ إذ الجود مسوِّدٌ
للوضيع ، رافعٌ للشريف ، حارسٌ للأعراض ، محببٌ العبدَ لدى الأضداد ، ولذا قال ابن
عباس - رضي الله عنهما - في هذا السياق : ( لَساداتُ الناس في الدنيا الأسخياء ،
وفي الآخرة الأتقياء )[23] .
فالسخاء وكثرة الإنفاق والعطاء صفات لازمة لرجل العامة ،
وإلا فكيف له أن يظفر بقبول الناس وينال محبتهم ؟ ولذا فإن الأوزاعي - مثلاً - كان
من أكرم الناس وأسخاهم ، إذ صار إليه من خلفاء بني أمية و بني العباس نحو من سبعين
ألف دينار ، فما ترك يوم مات سوى ستة دنانير فضلت من
عطائه ، كل ذلك كان ينفقه من سبيل الله[24] .
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : قال أبي : ( كان خالد
الطحان ثقة صالحاً ، من أفاضل المسلمين ، اشترى نفسه من الله أربع مرات ؛ فتصدق
بوزن نفسه فضة أربع مرات )[25] ، وعن محبوب بن موسى قال : ( لقيت الفضيل بن عياض فعزَّاني
بأبي إسحاق ، وقال : كان والله كريماً )[26] .
- الاحتساب والصدع بالحق :
فمن ترك مقولة الحق وداهن الواقع
في منكرٍ ، مع علمه وقدرته ، من دون تأوُّلٍ سائغٍ في ترك الأمر والنهي ؛ أغضب
الحق وسقط من أعين الخلق ؛ ومن ثَمَّ يكون قد افتقد بتقصيره ذلك أهمَّ عوامل
النجاح ومكونات القدرة على توجيه الآخرين وصناعة وجهتهم .
وكلما كان الموقف أرضى للرب ، وأصدع بالحق - كثرة أو
جرأة في عقل - وأنصح للأمة وألصق بهمومها وقضاياها ؛ كان أملكَ لقلوب العامة ،
وأقدر على ولوجها والتأثير فيها ونيل مودتها .
قال الأوزاعي : بعث عبد الله بن علي ( يعني : السفاح ) إليّ ، فاشتد ذلك عليّ ، وقدِمت ، فدخلت والناس سماطان ، فقال
: ما تقول في مخرجنا وما نحن فيه ؟ قلت : أصلح الله الأمير ! قد كان بيني وبين
داود بن علي مودة قال : لَتُخْبِرَنِّي ! فتفكرت ، ثم قلت : لأصدُقنّه ، واستبسلت
للموت ، ثم رويت له عن يحيى بن سعيد حديث : « الأعمال » ، وبيده قضيب ينكت به ، ثم
قال : يا عبد الرحمن : ما تقول في قتل أهل هذا البيت ؟ قلت : حدثني محمد بن مروان
، عن مطرف بن الشخير ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا يحل
قتل المسلم إلا في ثلاث .. » وساق الحديث .
فقال : أخبرني عن الخلافة ، وصية لنا من رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقلت : لو كانت وصية من رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ما ترك علي - رضي الله عنه - أحداً يتقدمه ، قال : فما تقول في أموال بني
أمية ؟ قلت : إن كانت لهم حلالاً فهي عليك حرام ، وإن كانت عليهم حراماً فهي عليك
أحرم ؛ فأمرني ، فأُخرِجت )[27] .
وقال أبو شعيب : ( قلت لأمية بن زيد : أين
الأوزاعي من مكحول ؟ فقال : هو عندنا أرفع من مكحول ، فقلت له : إن مكحولاً قد رأى
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : وإن كان قد رآهم ، فأين فضل
الأوزاعي في نفسه ، وقد جمع العبادة ، والورع ، والعلم ، والقول بالحق ؟ )[28] .
وليس الأمر بقاصر على الحسبة على سلاطين
الجور ، بل إن ذلك شامل للاحتساب على زيغ العامة وما قد يقع فيه بعض المنتسبين إلى
العلم والدعوة من بدع وانحرافات ظاهرة .
يقول العجلي في صفة أبي إسحاق الفزاري : (
كان ثقة ، صاحب سنة ، صالحاً ، هو الذي أدّب أهل الثغر وعلّمهم السنَّة ، وكان
يأمر وينهى ، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه ... أمر سلطاناً ونهاه ، فضربه مائتي
سوط )[29] .
وعن أبي مسهر قال : ( قدم أبو إسحاق الفزاري
دمشق ، فاجتمع الناس ليسمعوا منه ، فقال : اخرج إلى الناس فقل لهم : من كان يرى
القدر فلا يحضر مجلسنا ، ومن كان يرى رأي فلان فلا يحضر مجلسنا ، فخرجت ، فأخبرتهم
)[30] .
- الوقار وحسن المظهر :
جُبِلت النفوس على
التعلُّق بجمال النفس ، ورقة الكلمة ، وحسن الزي ، والسمت الحسن ، والوحشة من ضد
ذلك ؛ ولذا لا بد لرجل العامة من ملاحظة رعاية زِيِّه ، وتجميل مظهره ، وتطييب
لفظه ، والاتسام بالهدوء والحشمة ، وفي هذا المساق قال زرارة بن أوفى : ( رأيت
عمران بن حصين يلبس الخزَّ )[31] .
وورد أن الأوزاعي كان يقول : ( كنا قبل
اليوم نضحك ونلعب .
أما إذا صرنا أئمة يقتدَى بنا ؛ فلا أرى أن
يسعنا ذلك ، وينبغي أن نتحفط )[32] ، وقال الواصف لسيرته : ( ما رُئي الأوزاعي
ضاحكاً مقهقهاً قط ، ولقد كان يعظ الناس فلا يبقى أحد في مجلسه إلا بكى بعينه أو
بقلبه ، وما رأيناه يبكي في مجلسه قط )[33] .
وليس هذا فحسب ، بل على المتصدر لقضايا
الناس السعيُ لتحصيل الملكة المعِينة على توقِّي ذلك قبل حدوثه . قال محمد بن
الأوزاعي : قال لي أبي : ( يا بني ! لو كنا نقبل من الناس كل ما يعرضون علينا ؛
لأوشك بنا أن نهون عليهم )[34] .
أما أبرز خلال النوع الآخر الذي يختص به
رجل العامة فهي الآتي :
- الاجتهاد في بذل العلم والنصح للعامة والإجابة
عن استفساراتها : لا يكون طالب العلم مبارَكاً حتى يُعْنَى
بالإكثار من بذل العلم والجود بالنصيحة ، مستثمراً كل فرصة ، متفنناً في اختيار
الوسيلة النافذة إلى قلوب الناس وعقولهم ، فهذا عمران بن حصين - رضي الله عنه -
بعثه عمر الفاروق إلى البصرة ليفقِّه أهلها ، فيبذل غاية الوسع في ذلك ، حتى إن
الحسن البصري كان يحلف : ( ما قدم عليهم البصرة خير لهم من عمران بن الحصين )[35] .
وتدليلاً على ظهور هذه السمة العظيمة في رجل
العامة ، قال أبو مسهر : ( حدثني الهقل ، قال : أجاب الأوزاعي في سبعين ألف مسألة
، أو نحوها )[36] ، وقال أبو زرعة : ( روي عنه ستون ألف مسألة
)[37] ، وقال العجلي عن أبي إسحاق الفزاري : ( كان
كثير الحديث ، وكان له فقه )[38] .
وقال محمد بن عجلان : ( لم أرَ أحداً أنصح
للمسلمين من الأوزاعي )[39] ، فلا يكون المرء مقبولاً من العامة
مقدَّماً فيهم حتى لا يألو وُسْعاً في بذل النصيحة ، والعناية بتقديم العلم
والدعوة بالسبل الفردية والعامة .
- العناية بخدمة الناس وبذل الوُسع في
الشفاعة لهم والقيام بقضاياهم : وهذا الجانب هو الشيء الملموس واللب الظاهر
لرجل العامة ، ولن يتمكن المرء من القيام بذلك ما لم يكن لديه احتساب ظاهر ، وزاد
عظيم من العلم والصبر والحكمة ، وحسن الفهم ، والتسامح ، والشعور العالي
بالمسؤولية تجاه هذه الأمة ،وامتلاك الدافع القوي في إظهار محاسن الديانة ، ورفع
الظلم ، وتحقيق العدالة لكل أحدٍ : قريبٍ أم بعيد ، شريف أم وضيع ، مسلم أم كافر .
وأن يرى المنة لله - تعالى - وحده بأن أتاح
له مفاتيح إحسان وبوابات أجر[40] ، وجعل الناس واقفين ببابه محتاجين إليه ،
ولم يجعله كذلك ، مما يحمله على مزيد استغفار من التقصير ، ويدعوه إلى الاجتهاد في
التحلي بمرتبة الشكر .
وهو ما يتطلب منه : معايشةً أكثرَ للناس ،
والقيام ببذل النفس ، وإعطاء الوقت ، وعدم ادِّخار السبل والوسائل ، واتخاذ مكان
ظاهر يُمْكِن للعامة الوصول بسهولة إليه لعرض مشكلاتهم وطلب قضاء حوائجهم منه .
وقد ضرب الإمام الأوزاعي في هذا الباب أروع
الأمثلة ؛ إذ كتب إلى أمير المؤمنين المنصور في فك ألوف من المسلمين أسرى - وكان
ملك الروم يحب أن يفادي بهم ويأبى أبو جعفر - واعظاً له ومذكراً . فلما وصل كتابه
؛ أمر الخليفةُ بالفداء .
وكتب الأوزاعي رسالة إلى الخليفة يطلب منه
زيادة أرزاق أهل الساحل لكونهم يحمون الثغر[41] .
وكتب إلى والي الشام ينكر عليه إجلاء جميع
أهل الذمة في جبل لبنان حين خرج بعضهم عن الطاعة قائلاً : ( فكيف تؤخذ عامة بعمل
خاصة ، فيخرجون من ديارهم وأموالهم ؟ وقد بلغنا أن من حكم الله - عز وجل - أنه لا
يأخذ العامة بعمل الخاصة ، ولكن يأخذ الخاصة بعمل العامة )[42] .
وقال أحمد بن أبي الحواري : ( بلغني أن
نصرانياً أهدى إلى الأوزاعي جرة عسل ، فقال له : يا أبا عمرو ! تكتب لي إلى والي
بعلبك ؟ فقال : إن شئتَ رددتُ الجرة وكتبتُ لك ، وإلا قبِلتُ الجرة ولم أكتب لك .
قال : فردّ الجرة وكتب له ، فوضع عنه ثلاثين ديناراً )[43] .
والمتأمل في واقعنا الدعوي اليوم يرى بجلاء
حاجة أمتنا إلى رجال عامة تحلَّوْا بهذه السمات العظيمة ، فانبروا لخدمة الناس ،
وتحقيق مقاصد الديانة ، والعمل على حفظ سياج الأمة من أن يتصدرها فكرياً أو
اجتماعياً زائغٌ يقودها إلى التهلكة ، أو صاحب شهوة ليس له من هدف إلا بناء مجده
وسؤدده ، وتحقيق أطماعه ومصالحه ، وتأسيس أعمدة شرفه .
فاللهم ألهمنا رشدك ، وهبنا بمنِّك وجودك
ودقيق لطفك وعظيم إحسانك توفيقَك وبركتك ، واستخدمنا في طاعتك ، واجعلنا من
الذائدين عن دينك وكتابك وعرض نبيك ، وصلى الله وسلم على النبي المختار ، وعلى
الصحب والآل والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
(1) تاريخ الطبري ، 3/14 .
(2) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/1139 .
(3) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 8/543 .
(4) تاريخ بغداد ، للخطيب ، 8/294 ، ومن
الجلي أن وسم بعض أئمة الدين بأنهم رجال خاصة ليس بمنقص من قدرهم ؛ لأنه وإن بزهم
غيرهم في جانب قياد المجتمع والتصدر لقضايا العامة ؛ فقد بزوا غيرهم في غيره ؛ لأن
المرء قد يكون إماماً فُتِح له في الفقه في الدين ، وقرينه إمام فُتِح له في الزهد
والورع ، وذاك إمام فتح له في باب الاحتساب ، وآخر إمام في جانب العطاء والإنفاق ،
وكل مسخر لما خُلِق له ، وأكرم العباد على الله - تعالى - أتقاهم له ، وكلٌ على
بوابة ثغرٍ ، والأمة محتاجةٌ إلى كلٍّ ، رزقنا الله - تعالى - رضاه وعفوه .
(5) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 7/119 .
(6) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 8/279 ،
والبارية : بفتح الباء وتشديد الياء : الحصير المنسوج ، فارسي معرب .
(7) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/ 1139 .
(8) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 7/114 .
(9) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 7/119 .
(10) حلية الأولياء ، للأصبهاني ، 8/253 .
(11) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 7/119
.
(12) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 7/119
، قال الجوهري في الصحاح : 2/61 : (القَتَب ، بالتحريك : رَحْلٌ صغير على قدر
السَنام ، والقِتْبُ بالكسر : جميع أداة السانِية من أعلاقها وحبالها) .
(13) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 7/119
.
(14) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 2/510
.
(15) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 7/117
.
(16) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/1140 .
(17) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/1354 .
(18) البداية والنهاية ، لابن كثير ،
10/115 .
(19) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/1353 .
(20) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 8/543
.
(21) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/1139 .
(22) مقدمة الجرح والتعديل ، لابن أبي
حاتم ، 217 .
(23) أدب الدنيا والدين ، للماوردي ، 226
.
(24) انظر : تذكرة الحفاظ ، للذهبي ،
1/183 ، محاسن المساعي ، 80-82 .
(25) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/1368 .
(26) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/1354 .
(27) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ،
7/124-125 ، وقد قال الذهبي عقب ذلك : (قلت : قد كان عبد الله بن علي ملكاً جباراً
، سفاكاً للدماء ، صعب المراس ، ومع هذا فالإمام الأوزاعي يصدعه بأمر الحق كما ترى
، لا كخلق من علماء السوء ، الذين يحسنون للأمراء ما يقتحمون به من الظلم والعسف ،
ويقلبون لهم الباطل حقاً - قاتلهم الله - أو يسكتون مع القدرة على بيان الحق) .
(28) مختصر تاريخ دمشق ، للطوفي ، 7/111 .
(29) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ،
8/540-541 .
(30) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ،
8/541-542 .
(31) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 2/508
، وقال ابن الأثير في النهاية ، 2/74 ما نصه : (الخز المعروف أولاً : ثياب تنسج من
صوف وإبريسم ، وهي مباحة ، وقد لبسها الصحابة والتابعون ،،، وإن أريد بالخز النوع
الآخر وهو المعروف الآن فهو حرام ؛ لأن جميعه معمول من الإبريسم ، وعليه يحمل
الحديث : " قوم يستحلون الخز والحرير ") .
(32) البداية والنهاية ، لابن كثير ،
10/119 ، وانظر : حلية الأولياء ، للأصبهاني ، 6/143 .
(33) البداية والنهاية ، 10/116 .
(34) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/1140 .
(35) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 2/ 508
.
(36) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 7/111
.
(37) البداية والنهاية ، 10/116 .
(38) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 8/ 541
.
(39) البداية والنهاية ، 10/116 .
(40) قال القرطبي في تفسيره ، 3/339 :
(حكي أن بعض العلماء كان يصنع كثيراً من المعروف ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيراً
، فقيل له في ذلك ، فيقول : إنما فعلت مع نفسي ، ويتلو : ( وَمَا تُنفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ ) (البقرة : 272) .
(41) انظر : الجرح والتعديل ، للرازي ،
1/193 .
(42) الأموال ، لأبي عبيد ، 440 .
(43) حلية الأولياء ، للأصبهاني ، 6/143 .