حين كان العلم بحوراً زاخرهْ لا يدرك الطالب فيه آخرهْ
وهو بحر لا ساحل له ، وكلّما زادت الأمة شرقاً
وغرباً وتوسعت مجالات تواصلها مع الأمم الأخرى ، زاد ما تقذف به المطابع إلى رفوف المكتبات
.
وفي مقابل هذا يُجْمِعُ المراقبون على أن هِمَمَ
طلاب العلم وقاصديه قد تغيرت تبعاً لتغيُّر الزمان وتراجع الأجيال باتجاه العدِّ التنازلي
.
حين كان الأمر كذلك ، كان لا بد من استكمال خطوات
بدأها أسلافنا ؛ من ترتيب طريق الطلب ، وتنظيم العلوم ؛ فالعلماء الأولون - عليهم رحمة
الله – نظَّموا العلوم ورتَّبوها ؛ حتى يَسْهل على الطالب الترقي في درجات العلوم من
غير تخبُّط ولا مزاجية في الانتقاء ؛ فألفوا المتون المختصرة ، كمبادئ للعلوم ودرجة
أوَّلية يرتقيها الطالب إلى غيرها من المتون المتوسطة التي تزيد فيها المسائل ويتوسع
فيها مؤلِّفوها أكثر من سابقاتها ، وتبعاً لهذا ترتفع لغة مؤلفيها وشارحيها؛ ليتأهل
الطالب بعدها إلى المتون التي صُنِّفت للمنتهين .
وفيها تفريعات المسائل والغوص على العلل والترجيحات
والرد والقبول والتأصيلات العلمية وما شابهها مما يناسب هذه الدرجة من المتعلِّمِين
.
ومن ناحية أخرى فقد قسموا العلوم في الجملة إلى
قسمين : علوم آلة ، وعلوم غاية .
فعلوم الآلة والوسائل هي التي يُتَوصَّل بها
إلى علوم الغايات والمقاصد ، وما قام به العلماء - رحمهم الله تعالى - من هذه الجهود
وغيرها هو الجزء الأعظم في تقريب العلم لسالكيه وطالبيه .
وبقي على أهل كل عصر أن يجتهدوا في تنزيل هذا
العلم من خلال برامج وآليات تُناسب الواقع وتفي بالمقصود وتحقِّق المأمول .
إن في ما بدأ وبزغ فجره في مناطق مختلفة ؛ من
برامج علمية تُثلِج صدور العاملين لدين الله ، وتعيد الأمل للأمة بتخريج طلاب علم جادِّين
، وصناعة قيادات علميَّة وَفْقَ رؤية شرعية سلفية مؤصَّلة ، دليل على تنامي الوعي الإسلامي
بالحاجات والضرورات الداعمة لمسيرة هذه الأمة خصوصاً في المنعطفات المستقبلية التي
تنتظر الأمة أو تنتظرها الأمة .
ولا شك أن هذه البرامج وإن كانت خطوة رائدة من
بعض المؤسسات الدعوية والعلمية وبعض المهتمين بهذه الشؤون ، إلا أنها تحتاج إلى شيء
من الترشيد والتوجيه ، حتى تؤتي ثمارها يانعة بإذن الله ، ولا أزعم أنني بهذه الكلمات
أُوَجِّه أو أُرْشِد ، وإنما كتبت لاستدراج أقلام ، هي المعنيَّة بهذا الشأن ، وأصحابها
سدنة العلم وأهله ؛ فلا يُفتى ومالك في المدينة .
ولعلِّي أُلمح إلى بعض المفردات والمتفرقات
في هذا الشأن :
صياغة المناهج التعليمية :
إذا علمنا أن أهل العلم
- قديماً وحديثاً - قد بذلوا في هذا الجانب جهداً عظيماً وأصبحت طريقتهم جادَّة مسلوكة
عند مَنْ جاء بعدهم ، وتربَّى عليها جهابذة من العلماء وأئمة المحقِّقِين الذين نفع
الله بهم وبعلمهم .
فلماذا الحياد عنها ؟ ولا يعني هذا إيقافها وصيانتها
من الاجتهاد والانتقاد ، ولكن يعني الإفادة منها والعناية بها على قدر الإمكان ، وما
قد يظهر عند بعض المجتهدين من تعديلات على بعض الطرق والمناهج استلزمها الواقع أو الزمان
، فلا حرج في ذلك .
ولكن المهم ألاَّ تخرج عن المعالم العامَّة لمنهجية
السلف - رضوان الله عليهم - ولعلَّ من أهمها :
- تربية الطلاب بصغار العلم قبل كباره ، فتلك
الربانية كما تعلمون ، وهذه إجابة وافية شافية لمن سأل عن علَّة البداية بالمتون المختصرة
، ولمّا كانت هذه هي الربانية ، كان دارسوها كذلك ، وكان العلماء يربُّون طلابهم على
هذه الشاكلة .
- الشمول والتكامل لجميع العلوم التي يحتاجها
طالب العلم ؛ من علوم المقاصد وعلوم الآلة كلٌّ بحسبه ، فقد وُجِدَ في بعض البرامج
من أغرق في علوم الآلة من اللغة والأصول والمصطلح ... وغيرها على حساب علوم المقاصد
كالفقه مثلاً ، فلا يوجد إلا متن مختصر ، لا يفي بالمقصود في برنامج تزيد مدَّته على
ثلاث سنوات .
وعلوم الآلة إذا أغرق فيها الطالب استنزفته قَبْلَ
أن يصل إلى علوم المقاصد ،فالأَوْلى أن تتصاحب ، وإن تقدَّمت علوم الآلة قليلاً فلا
بأس ؛ حتى يكون هناك فرصة للتطبيق والتمرين على ما درس في سابقاتها .
أهداف البرامج العلمية : إذا تم العزم على صياغة برامج علميَّة ، فليكن
من أُولَى الأولويات الحديث عن أهداف هذه البرامج ؛ إذ ليس المقصود هو جمعَ مجموعة
من الطلاب لشيخ يدرِّسهم متناً بعينه فحسب ، ولا حَصْرَ بعض المتون والشروح في جداول
وتقسيمات .
وإن كان هذا وسابقه خيراً ، إلاَّ أننا في كل
برنامج علميٍّ نصوغه ، ينبغي أن يتضح هدفنا ؛ لكي نرمي إلى نتائج واضحة لأسباب مرسومة
.
فَمِنَ البرامج ما يرمي إلى تخريج المتخصِّصين
، ولذا قد تطول مدَّته وتَكْثُر متونه وعلومه وتتنوع آليات التنفيذ تبعاً لذلك كله
.
ومنها ما يهدف إلى التأسيس فحسب ، وهذا له آليَّاته
وطبيعته الخاصة ، والمهم من هذا كلِّه أن النتائج تقيَّم على أساس الأهداف ؛ فما لم
يكن هدفاً فلا يصحُّ المحاسبة عليه ، وعندها تقاس النجاحات والإخفاقات بوضوح ، ويكون
للتصحيح مجال خصب .
إدارة البرامج العلمية وتنظيمها :
- من المأمول أن يتقدم هذه البرامج اختبارات
قبول ؛ يُحدَّد فيها مستوى الطالب فلا
يُشتَرط أن يبدأ الطالب من أول مستويات البرنامج ؛ فقد يكون قد تجاوزها من فترات مضت ، ولو تحقق ذلك لكان في غاية الحُسْن
، وبهذا وغيره تتأهل البرامج لخدمة شرائح أكبر من طلاب العلم
، وقد لا يتأتى ذلك إلاَّ من خلال معاهد شرعية
متخصِّصة ؛ تقوم بشؤون هذه البرامج وما يلزمها .
- ينبغي دراسة الفئات المستهدَفَة بهذه البرامج
؛ فقد يكون الواقع في حاجة إلى صياغة
أكثر من برنامج علميٍّ لاختلاف الشرائح المستهدَفة بكل برنامج ؛ حتى يتسنى نَشْرُ العلم في أوساط المجتمع بطريقة أوسع وأكثر تنظيماً
؛ لرفع غياية الجهل عن مجتمعاتنا ؛ فللعامة برامج ، وللمتخصصين
، وللمبتدئين ... وهلمَّ جراً .
- ينبغي أن يتعاون كل من يعنيه الأمر في إنجاح
مثل هذه المشاريع ، التي هي من أساسات
صناعة الجيل ؛ فيتعاون المسؤولون والجهات الرسمية على تسهيل ما يعني هذه البرامج من قرارات وأنظمة ، وكذلك العلماء المتخصصِّون
؛ إذ هم فرسان هذا الميدان ، ولا ينبغي أن يتصدى غيرهم
لشرح هذه المتون والمواد ، وإن كان ممن ينتسبون
إلى العلم ، فالمتخصصون هم الذين يستطيعون بناء طلاب علم متمكِّنين يأخذون العلم بحقِّه ، فيُجيبون دعوة بلاد مختلفة
للمشاركة في هذه البرامج العلمية
.
وممن ينبغي تعاونهم كذلك لرعاية هذه البرامج
وتقديم الدعم لها حتى تؤتي أُكُلَها وثمارها حلوة يانعة المؤسسات الداعمة والتجار والموسِرون
.
وعلى طلبة العلم - وهم العامل الأهم في هذه المنظومة
- أن يلتفُّوا حول هذه البرامج ويفيدوا منها ويعيدوا للأمة روح العلم والعلماء التي
فُقِدَت في كثير من بلادنا ؛ والله المستعان .
لا يكن الحل هو المشكلة !
من الأهداف العظيمة التي قامت من أجلها هذه البرامج
: تقنين منجزات المحاضن العلمية ، وترتيب التعليم الشرعي في
المساجد ، وعلاج ضياع المنهجية وضَعْفِ هِمَمِ
طلاب العلم ... وهذه أهداف نبيلة ولا شك .
ولكن الأمر المخيف هو أن يتخرَّج من هذه البرامج
أنصاف طلاب العلم ؛ لأنهم عندما قضوا فيها بضع سنوات ، وحفظوا شيئاً من المتون وقرؤوا
شروحها ضِمْن برنامج علمي منظَّم ؛ فقد يظن بعضهم أنه حاز العلم من أطرافه وجمع علم
الأولين والآخرين ، وهذه الظاهرة عانت الأمة منها سنين عدداً ؛ فترى أحدَهم لا يثنيه
عن أعضل المسائل ، إلاَّ عدم عَرضِها عليه أو عدم سماعه بها ، ولو دبَّ إلى أذنيه شيء
من خبرها لصدرت الفتوى عنه وهم مصبحون ؛ فلا بد لهذه البرامج أن تسعى إلى تقليص مثل
هذه الظواهر السلبية .
ومن الطرق المناسبة لعلاج مثل هذه الظاهرة أن
يتصدى لشرح المتون خلال هذه البرامج مَنْ يرى فيهم الطلاب قدوة علميَّة عمليَّة صادقة
؛ يتربى معهم الطلاب ويتعلمون منهم العلم والعمل ، ولا يتصدى صغار طلاب العلم للشرح
في مثل هذه البرامج بأي حجة كانت ؛ حتى لا يتجرأ القوم على العلم وأهله ، ويُظَنُّ
أن من حمل شيئاً يسيراً من العلم تصدى وتصدر ، بل الأمر غير هذا ، ولَأنْ يتخرج الطالب
يحتقر نفسه متواضعاً للعلم ولأهله ، خير من أن يتخرج وهو يرى ألاَّ فرق بينه وبين الذين
شابت رؤوسهم في العلم .
كانت هذه نقاط بسيطة في ترشيد بعض البرامج العلمية القائمة .
بارك الله الجهود وسدد الخطى وأخلص النيات .