• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
في تدبر القرآن

في تدبر القرآن

 ذكر الله - تعالى - في كتابه التدبُّر وحض عليه ، سواء من المؤمنين بالدين أم من الكافرين به ، والتدبر مأخوذ من ( الدُّبُر ) الذي هو الخلف ؛ فعندما حض القرآن الناس على التدبر ؛ فقد حضهم على النظر إلى القرآن من جميع جوانبه والتأمل فيه بعمق ، ولا يكتفوا فقط بالظاهر ، وذلك لأن القرآن حق ؛ فمن أي جهة نظر إليه الإنسان وتأمل فيه ، فلن يملك غير الإقرار بأن الكتاب حق ، وأنه من عند الله العلي الكبير .

وحَضُّ المشركين على النظر العميق والتأمل في القرآن من جميع جوانبه ،يُعَدُّ نوعاً من التحدي لهم ؛ فكأن الآيات تقول لهم : اجهدوا جهدكم وافعلوا ما شئتم ، وانظروا في الكتاب بعمق وكرِّروا النظر وأعيدوه أكثر من مرة ، فلن يقودكم ذلك إلى وجود نقص أو اختلاف فيما جاء به ، ولو كان هذا القدر الكبير من الآيات على تنوع المواضيع التي اشتمل عليها والتي تنزلت في أماكن متفرقة وأزمان متباعدة وظروف مختلفة لو كان من عند غير الله - تعالى - لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً .

وأما المؤمن ؛ فإن تدبُّره لكتاب الله - تعالى - يفتح له آفاقاً واسعة للانتفاع بما في هذا الكتاب من أنواع العلوم المختلفة مما يقوده إلى استنباط كثير من الأحكام التي لم تكن تظهر عند عدم التدبُّر التام ، كما أن التدبر يزيد في إيمان المسلم حتى تبدو أمامه الأمور وكأنه يراها بعينيه أو يلمسها بيديه ، وقد قال الله - تعالى – في كتابه : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ } ( ص : 29 ) ، فبيَّن الله - سبحانه وتعالى - أن تدبر الآيات من المقاصد العظمى في نزول القرآن ، وقد جاء الحض على التدبر في آيات عدَّة من كتاب الله - تعالى - فقال : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } ( النساء : 82 ) ، كما قال - تعالى - : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ( محمد : 24 ) ، وقال : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ } ( المؤمنون : 68 ) .

قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله تعالى- : « يأمر - تعالى - بتدبر كتابه ، وهو التأمل في معانيه ، وتحديق الفكر فيه ، وفي مبادئه وعواقبه ، ولوازم ذلك ؛ فإن تدبُّر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف ، وبه يُستنتَج كلُّ خير وتُستَخرَج منه جميع العلوم ، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته ؛ فإنهيعرِّف بالرب المعبود ، وما له من صفات الكمال ، وما يُنزَّه عنه من سمات النقص ، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها ، وما لهم عند القدوم عليه ، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة ، والطريق الموصلة إلى العذاب ، وصفة أهلها ، وما لهم عند وجود أسباب العقاب .

وكلما ازداد العبد تأملاً فيه ، ازداد علماً وعملاً وبصيرةً ، لذلك أمر الله بذلك وحث عليه وأخبر أنه ( هو ) المقصود بإنزال القرآن » . [1]

كيف يكون التدبر ؟

والتدبر يكون عن طريق النظر والتأمل في النص وفي مفرداته وكيفية تركيب هذه المفردات معاً ، وفي المعاني التي اشتمل عليها ، وما يلزم ذلك من المعاني المبنيَّة عليها ، كما يكون التدبر بالنظر في عدة نصوص ؛ ليربط بينها ؛ فيبدو منها مجتمعة ما لم يكن بادياً عند النظر على الانفراد لكل منها .

والتدبر هو : محاولة إخراج ما في النص من مختلف الدلالات التي لا تظهر بادي الرأي ، وليس من معنى التدبر : الإتيان بالغريب من الأقوال التي تعارض ظاهر النصوص ، وإنما هو كشف لمعاني مستكِنَّة في النصوص لا تتحصل إلا بالفهم العميق والنظر والتأمل الكثير ؛ فالتدبر وإن لم يكن تفسيراً لكنه لا يناقض التفسير ، بل يمثل رافداً له .

معوِّقات التدبر : مما يعيق تدبر المرء عند قراءته للقرآن ، العادة والإلف ؛ فإن المسلم – نظراً لكثرة قراءته ومداومته النظر في كتاب الله العزيز - يصير ما اشتمل عليه من المعاني العالية والعجائب اللطيفة من قبيل العادات ؛ فلا يشعر القارئ بما فيها من عجائب الأمور ودقيق المعاني ، كما أن الغفلة أثناء القراءة عما يقرؤه الإنسان تشكِّل عقبة كأداء في طريق التدبر ؛ حيث يسرح القارئ بفكره في أمور كثيرة لا علاقة لها بما يقرأ ، وينضاف إلى ذلك رغبته في الانتهاء من وِرْده ، ولذلك قال مَن قال من السلف : « لا يكن همُّ أحدكم آخر السورة ، ولا تهذُّوه كهذَّ الشَّعر ولا تنثروه نثر الدقل »[2] بل قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب .

بسم الله الرحمن الرحيم :أول ما نبدأ به في التدبر قوله - تعالى - : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ( الفاتحة : 1 ) ، وهو أول ما بدأ الله به كتابه في سورة الفاتحة .

عندما نتدبر هذه الآية وننظر فيها بعمق غير مكتفين بالظاهر القريب ، نجد أن هذه الجملة المكوَّنة من هذه الكلمات الأربع قد اشتملت على معاني جليلة كبيرة ؛ فمن ذلك : - نفي الشريك عن الله - تعالى - فعندما يقول المسلم : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فهو يُقرُّ ويعترف أنه يبدأ عمله أو قوله بسم الله وحده وليس باسم أحد آخر .

فلا يقول - مثلاً - : باسم الشعب أو الأمة أو الوطن ... ونحو ذلك من الكلمات التي تدور على ألسنة الكثيرين ، ولذلك كثر استخدام هذه الآية في مكاتبات الرسل أفضل عباد الله - تعالى - ومَن تابعهم على طريقتهم ؛ لأن فيها إعلان التوحيد ، فهذا نبي الله سليمان عليه السلام عندما أرسل خطابه إلى ملكة سبأ قال لها - كما قص الله علينا - : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } ( النمل : 30-31 ) .

وعندما كتب الرسول الأعظم محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم – إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام كتب إليه : « بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم ... » الحديث[3] ، وعندما أراد الرسول الكريم أن يكتب كتاب الصلح بينه وبين المشركين في الحديبية دعا الكاتب ، فقال : اكتب الشرط بيننا : « بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ... » الحديث[4] .

وفي كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لِمُجَّاعَةَ : « بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي لِمُجَّاعَةَ بن مرارة من بنى سلمى ... » الحديث [5] ، وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِعَكٍّ ذِي خَيْوَانَ : « بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله لِعَكٍّ ذِي خَيْوَانَ إن كان صادقاً في أرضه وماله ورقيقه ، فله الأمان وذمة الله وذمة محمد رسول الله »[6] ، وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبلال بن الحارث المزني : « بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلال بن الحارث المزني أعطاه معادن القبلية ... » الحديث [7] .

وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبني زهير بن أقيش : « بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله لبني زهير بن أقيش - حي من عكل - : إنهم إن شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وفارقوا المشركين وأقرُّوا بالخمس في غنائمهم وسهم النبي وصفيِّه ؛ فإنهم آمنون بأمان الله ورسوله » .[8]

وحين بعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين كتب له : « بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من محمد رسول الله النبي الأمي القرشي الهاشمي رسول الله ونبيه إلى خلقه كافة للعلاء بن الحضرمي ومن معه من المسلمين ؛ عهداً أعهده إليهم اتقوا الله أيها المسلمون ! ما استطعتم ... » [9] .

وعندما وجَّه أبو بكر الخليفة الراشد - رضي الله عنه - أنس بن مالك للبحرين لجمع الصدقة « كتب له هذا الكتاب : « بسم الله الرحمن الرحيم : هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين ، والتي أمر الله بها رسوله ... » الحديث [10] .

وكتب الخليفة الراشد الثاني الفاروق عمر - رضي الله عنه - : « بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث ... » الحديث . [11]

وقد ورد ما يدل على فضل هذه الآية ؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ؛ فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر ، ثم يقول له : أتنكر من هذا شيئاً ؟ أظلمَتْكَ كتَبَتِي الحافظون ؟ قال : لا يا رب ! فيقول : ألك عذر أو حسنة ؟ فيُبْهَت الرجل ، فيقول : لا يا رب ! فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظُلم اليوم عليك ؛ فيُخرَج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فيقول : أحضروه ، فيقول : يا رب ! وما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تُظلم ، قال : فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة ، قال : فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ، ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم » [12] ، فكأن « بسم الله الرحمن الرحيم » تعادل شهادة التوحيد .

ولما أصيبت يد طلحة بن عبيد الله في إحدى الغزوات مع رسول لله – صلى الله عليه وسلم - قال : حس ، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - : « لو قلت : بسم الله الرحمن الرحيم ، لرأيت بناءك الذي بنى الله لك في الجنة وأنت في الدنيا » [13] .

وروى أبو نُعيم الأصفهاني في حلية الأولياء بسنده عن محمد بن الصلت ، يقول : « سمعت بشر بن الحارث وسُئل ما كان بَدء أمرك ؟ لأن اسمك بين الناس كأنه اسم نبي ، قال : هذا من فضل الله ، وما أقول لكم : كنت رجلاً عياراً صاحب عصبة ، فجزت يوماً فإذا أنا بقرطاس في الطريق فرفعته ، فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، فمسحته وجعلته في جيبي ، وكان عندي درهمان ما كنت أملك غيرهما ، فذهبت إلى العطارين فاشتريت بهما غالية ومسحته في القرطاس ، فنمت تلك الليلة ، فرأيت في المنام كأن قائلاً يقول لي : يا بشر بن الحارث ! رفعت اسمنا عن الطريق وطيبته ، لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة ، ثم كان ما كان » .

- ومن ذلك : الإقرار بأن الله وحده هو المعين الذي يستعين به العبد على تحقيق ما يريد ؛ لأن ( بسم الله ) تعني : أنني أبداً مستعيناً بالله وحده لا مستعيناً بسواه ؛ فقدْرَته مطلقة كاملة لا يحدها شيء بعكس قدرات الناس ؛ فإنها مقيَّدة ومحدودة ، وإفراد الله - تعالى - بالاستعانة ، فيه الشهادة لله - تعالى - أنه على كل شيء قدير وأنه ليس له ظهير أو نصير ؛ ولذلك استعان به المسلم وحده ولم يستعن بأحد معه ، كما أن فيه الشهادة بكرم الله على عباده ؛ حيث يفتتحون أعمالهم وأقوالهم باسمه - تعالى - وهم على رجاء كبير أنه يحقق لهم مطلوبهم .

- ومن ذلك : إظهار عجز الإنسان وعدم قدرته على الانفراد بتحقيق مطلوبه ما لم يكن هناك عون من الله - تعالى - في ذلك ؛ لذا شُرعت التسمية في كثير من الأمور : في النوم والاستيقاظ ، في الخروج من المنزل ودخوله ، في الأكل في الشرب في الذبح ... وغير ذلك من الأمور .

- ومن ذلك أن الله ضَمِن الرزق لعباده ؛ لأن الرحمة لا تكتمل في جميع صورها وأشكالها إذا كان المخلوق لا يضمن رزقه وما يقيم به أوْدَه ، وهذا يجر من جانب آخر إلى عدم ابتغاء الرزق عند غير الله الرحمن الرحيم ، قال - تعالى - :{ فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } ( العنكبوت : 17 ) ، وقال - تعالى - : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ } ( فاطر : 3 ) والآيات في ذلك كثيرة .

- ومن ذلك : أن ما خلقه الله - تعالى - وإن ظهر فيه لنا بادي الرأي أنه من المصائب : كخلق الحيات والعقارب والسباع ... ونحو ذلك ، فإن فيه حِكَم عظيمة وفوائد جليلة حتى وإن خفيت علينا ، لأن الرحمن الرحيم لا يخلق ما فيه الضرر والشرور على عباده من غير مصلحة ترتجى من ورائه .

- ومن ذلك : أن الداعية يعتمد في دعوته الترغيب والتبشير ويقدمهما على الترهيب والإنذار ؛ فأول آية في كتاب الله - تعالى - يقابلها الناس في القرآن قوله - تعالى - : بسم الله الرحمن الرحيم ، ولم تكن : بسم الله العزيز القهار مثلاً مع أن ذلك حق وصواب ؛ فهذا مما يدل على أن الرحمة سابقة للغضب وأن الترغيب سابق للترهيب ، وأن التبشير سابق للإنذار .

مما يُبيِّن أنه على الداعي أن يعتمد كثرة الترغيب لا كثرة الترهيب ، وكثرة التبشير لا كثرة الإنذار ، وهو الذي يبدأ به ويقدمه على غيره ، وأنه يحبِّب الناس في ربهم ؛ لأنه الذي يعطيهم بلا حساب ... مما يبين ذلك ما أخرجه الطبراني في مسند الشاميين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « ألا أحدثكم عن رجلين من بني إسرائيل ، أما أحدهما ؛ فيرى أنه أفضلهما في الدين والعلم والخُلُق ، وأما الآخر ؛ فيرى أنه مسرف على نفسه ، فذُكر عند صاحبه ، فقال : لن يغفر الله له ، فقال الله : ألم تعلم أني أرحم الراحمين ؟ ألم تعلم أن رحمتي سبقت غضبي ؟ وإني قد أوجبت لهذا الرحمة ولهذا العذاب ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « فلا تتألوا على الله » [14] .

وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : « لمَّا قضى الله الخلق كتب عنده فوق عرشه ، إن رحمتى سبقت غضبى »[15] ، وإذا كانت رحمة الله سبقت غضبه ؛ فهذا يعني : أنه لا يهلك عند الله إلا من كان موغلاً في الضلال نافراً عن الهداية ؛ لأن الله يمهله ويدعوه للتوبة ، فإذا رجع إليه قَبِلَه وغفر له وبدَّل سيئاته حسنات ؛ فلا يَهلِك والحالة هذه إلا الشارد الذي لا يريد الخير ولا يسعى إليه ، كما أن معرفة المسلم أن الله رحمن رحيم تجعله يُقْبِل دائماً على ربه وإن وقعت منه المعصية ولا ييئس من رحمة الله ، بل كلما أذنب ، تاب واستغفر وهو على أمل القبول ؛ لأن ربه رحمن رحيم .

- ومن ذلك : أن الآية لم تقتصر على قوله : « بسم الله » مع أنها كافية ،بل جاء معها لفظ : « الرحمن الرحيم » لتكون بمثابة الحافز الذي يُطمع العبد في فضل الله وعفوه ، مما يجعله دائماً مقبِلاً على ربه غير منقطع عنه ، مؤمِّلاً ما عنده من الخير العميم والرحمة التامة الكاملة ، وهذا لخير العبد ونفعه ؛ لأن الله – تعالى - لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين .

- ومن ذلك : بيان سعة رحمة رب العالمين ؛ فإن الآية لم تقتصر على لفظ الرحمن فقط كأن تكون : ( بسم الله الرحمن ) أو لفظ الرحيم فقط ؛ كأن تكون : ( بسم الله الرحيم ) فاجتماع اللفظين معاً دالٌّ على أن هناك تفاوتاً في دلالة كلًّ من اللفظين على الرحمة ، مع أن كِلا اللفظين يدل على الرحمة ، ومن ثَمَّ ؛ فإن اجتماعهما معاً يدل على أن جميع الصور التي يمكن تصورها في الرحمة هي من أفراد رحمة الله - تعالى - الجامعة ، سواء كانت رحمة في الدنيا أو رحمة في الآخرة أو رحمة في الشرائع ، يقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : « جعل الله الرحمة مائة جزء ، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً ، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً ؛ فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق ، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه » [16] .

- ومن تلك المعاني التي تدل عليها البسملة : أن الإنسان لا ينبغي له أن يلجأ في الشدائد لأحد غير الرحمن الرحيم ؛ فإن لم ينتشله الرحمن الرحيم من هذه الشدة أو الورطة ، فلن ينتشله أحد ؛ لأن الله - تعالى - أرحم به من كل أحد ، بل الله - تعالى - أرحم بالإنسان من رحمته بنفسه ، ومن هنا يتبين أنه من الخسران المبين أن يلجأ الإنسان لغير الرحمن الرحيم في كشف ضُرِّه وتفريج كربه ، بل يدل لجوؤه لغير الرحمن الرحيم في هذه الحالات على ضعف أو فوات إيمانه بهاتين الصفتين .

- ومن ذلك : أن ما شرعه الله من الواجبات ، أو ما حدده من العقوبات والحدود على المخالفات ، أو ما قدره من الأقدار ، لا تخالف مقتضيات رحمته التي وسعت كل شيء ، وهذا يبين أنها مقدورة للعبد ، سواء في فِعْل الواجب أو اجتناب المحرَّم أو الصبر على المصيبة ، وأنه ليس في ذلك تكليف بما يستحيل كونه أو بمايعسر ويشق مشقة خارجة عن وُسْع الإنسان ؛ فهذا الذي يليق برحمة الرحمن الرحيم ، وهذا ما يبين جهل المعترضين على حدود الله وظُلْمَهم ؛ حيث يظنون أن في الحدود عنفاً وقسوة .

- ومن ذلك : دلالة التسمية على كون الرسول محمد صلى الله عليه بشراً ؛ فهو أول من بلغته هذه الآية ، وهو أول من قرأها وبلَّغها ، وهي شاهدة على استعانته بالله وهو ما يبين إقراره بالعبودية لله - تعالى - وأنه لا يستنكف من ذلك ، بل هو حريص على تكريس هذه الحقيقة عندما قال لأصحابه : « لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله » .

هذه بعض النظرات التي رأيتها من خلال تدبر ألفاظ البسملة ومن كونها أول ما بُدئ به كتاب الله ، ولا يزال القرآن يعطي من كنوزه لمن تأمَّل فيه وتدبره .

نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من الذين يتدبرون كلامه على الوجه الذي يرضيه عنا ، وأن نكون من العاملين به الداعين إليه .

 

 

 


(1) تفسير ابن سعدي : 1/189-190 .

(2) الدقل : هو رديء التمر ويابسه ؛ فتراه لرداءته لا يُجمع لسان العرب : مادة ( دقل ) .

(3) أخرجه : البخاري رقم2941 ، و مسلم : رقم 1773 .

(4) أخرجه : البخاري : رقم 2731 ، ومسلم : رقم 1783 ، لكن المشركين رفضوا كتابة بسم الله

الرحمن الرحيم كما رفضوا كتابة رسول الله .

(5) أخرجه : أبو داود .

(6) أخرجه : أبو داود .

(7) أخرجه : أبو داود و أحمد .

(8) أخرجه : أحمد .

(9) أخرجه : الطبراني في المعجم الكبير .

(10) أخرجه : البخاري رقم1454 .

(11) أخرجه : أبو داود .

(12) أخرجه : أحمد وصححه الألباني في تعليقه على شرح العقيدة الطحاوية ، وقال الشيخ شعيب

الأرناؤوط : إسناده قوي ، رجاله ثقات ؛ رجال الصحيح غير إبراهيم بن إسحاق الطالقاني .

(13) أخرجه : الدارقطني في الأفراد ، وابن شاهين في أماليه ، و أبو نعيم في فضائل الصحابة ،

و ابن عساكر عن طلحة .

(14) أخرجه : أبو نعيم في الحلية ، وابن عساكر .

(15) أخرجه : البخاري رقم7453 .

(16) أخرجه : البخاري رقم 6000 ، ومسلم رقم 2752 .

 

 

أعلى