للقصة تأثير كبير في النفس البشرية ؛
فقارئها ومستمعها يعيش بكليته مع أحداثها ، وتؤثر في نفسه إيجابًا أو سلبًا حسب
هدف كاتبها منها ، والرسالة التي يريد إيصالها إلى القارئ أو المستمع عن طريقها ؛
ولذلك كثرت القصص والروايات ، وازدهرت سوق كُتَّابها ، وتنوعت تنوعًا كبيرًا ؛
فقصص للأطفال وأخرى لمن هم فوقهم ، وقصص للمراهقين ، وروايات للكبار ، ومنها
العاطفي ومنها البوليسي ومنها المرعب ، بل منها قصص السحر والشعوذة والخرافة ؛
ليسبح قارئها ومستمعها في خيالها ، ويَنْبَتَّ عن واقعه حال عيشه معها .
ومع الانفتاح الإعلامي عُرفت كثير من
الروايات الغربية ، وأصبح الوصول إليها سهلاً فور إصدارها ، ومن تابع الضجة
الإعلامية التي صاحبت صدور الأجزاء الأخيرة من رواية ( هاري بوتر ) التي كانت
مبيعاتها بمئات الملايين من النسخ ، وترجمت إلى ما يقارب سبعين لغة ، أدرك أثر
الرواية والقصة في نفوس البشر ، ولو كانت خرافية ، بل لا يجعل لها مثل هذا الصيت
إلا لكونها خرافية .
ولا غرابة في أن نرى مثل هذه الروايات
والقصص التي أكثرها تعارض ديننا وأخلاقنا وأعرافنا تتسلل إلى بيوتنا ، وتفسد دين
نسائنا وأولادنا وأخلاقهم ، ومع تطور الصنعة الإعلامية صُوِّرت القصص والروايات
المكتوبة في أفلام ومسلسلات ورسوم متحركة وغيرها ، ولا تسلْ عن الإقبال عليها
والترويج لها ! وهذا يبرز لنا أهمية القصة وأثرها العظيم ، ووجوب
العناية بقصص القرآن والسُّنة وتقديمها للناس ، والخطبة من أهم المنابر التي يمكن
أن تكون مجالاً رحبًا لعرض قصص القرآن والسُّنة ؛ للاستفادة منها والاهتداء بها .
الغرض من القصص في القرآن :
قارئ القرآن الكريم
يلاحظ كثرة القصص فيه ، وتنوعها في موضوعاتها التي تعالجها ، وفي شخصياتها التي
تحكي أدوارها وأعمالها ، وفي طولها وقصرها ، وفي تكرار بعضها بأساليب مختلفة ،
ولهذه القصص أغراض عدة منها :
أولاً : التذكرة والاعتبار :وذلك كقصص الظالمين ونهاياتهم ، والمستكبرين
ومآلاتهم ؛ للتحذير من سلوك مسلكهم ، ومنها : قصص قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم
شعيب و فرعون و النمرود بن كنعان ، و بلعام ، وصاحب الجنتين .
وجاء في بعض هذه القصص النص على أن مِن
أغراضها التفكُّر والاعتبار ، كما في قصة بلعام الذي أنعم الله - تعالى - عليه
بآياته فانسلخ منها ، واتبع هواه ؛ إذ ختمها الله - سبحانه - بقوله : { فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ( الأعراف : 176 ) ، ولما قص - سبحانه - في الأعراف قصص آدم
ونوح و هود و صالح ولوط وشعيب - عليهم السلام - ذيَّل
ذلك بقوله - عز من قائل - : {
تِلْكَ القُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ
أَنبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا
لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ
الكَافِرِينَ ( الأعراف : 101 ) .
وفي قصة حَشْر بني النضير ( حصارهم ) قال
الله - تعالى - فيها :{
فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ } ( الحشر : 2 ) .
وفي الإشارة إلى غزوة بدر في أوائل ( آل
عمران ) قال الله - تعالى - :{
قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ
التَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم
مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ } ( آل عمران : 13 ) .
وختم الله - تعالى - قصة يوسف عليه السلام
بقوله - عز وجل - : {
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ
لِأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ } ( يوسف : 111 ) .
ويدخل في ذلك قصة إبليس اللعين مع أبينا آدم
عليه السلام لنَحْذَر من إغوائه لنا ، ونعتبر بما حصل لأبينا - عليه السلام -
لمَّا أطاع إبليس ؛ فلا نطيعه ، بل نتخذه عدوًا : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا
يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } ( فاطر : 6 ) .
ثانيًا : التسلية والتثبيت :
وهي قصص الابتلاء ،
كابتلاء الأنبياء وأتباعهم بالمكذبين والظالمين ،وابتلاء بني إسرائيل بفرعون وما
جرى لهم على يديه من الذل والهوان ، وابتلاء يوسف -
عليه السلام - وقد ذكر الله - تعالى - قصص جملة من رسله – عليهم السلام - في سورة
( هود ) ثم ختم ذلك بقوله - عز وجل - : { وَكُلاًّ
نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } ( هود : 120 ) .
وختم - سبحانه وتعالى - قصة نوح وما جرى له
مع قومه بقوله - عز وجل - : { تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ
تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ
لِلْمُتَّقِينَ } (
هود : 49 ) ، وقال -
عز وجل - في فاتحة قصة يوسف - عليه السلام - : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ هَذَا القُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ } ( يوسف : 3 ) وختمها بقوله - عز وجل - : { ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } ( يوسف : 102 ) .
ثالثًا : الاقتداء والتأسي :
كقصص الأنبياء
والصالحين في ثباتهم على الحق ، وصبرهم على الدعوة ،وتحمل أذى المؤذين في ذات الله
- تبارك وتعالى - وهكذا التأسي بهم في توكلهم ويقينهم ، وثقتهم بربهم - عز وجل - وكذلك
اتباع هديهم في عباداتهم ومعاملاتهم وزهدهم وأخلاقهم .
وقد ذكر الله - تعالى - في الأنعام قصة
إبراهيم - عليه السلام – ومباهلته لقومه ، وأعقبها بالثناء على جملة من الأنبياء -
عليهم السلام - ثم ختمها – عز وجل - بالأمر بالتأسي بهم ، فقال - سبحانه - : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } ( الأنعام : 90 ) وقال - سبحانه - في قصة أهل الكهف : { نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُوا
بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } ( الكهف : 13 ) .
رابعًا : رفع الخلاف :
في مسائل كبيرة اختلف
الناس فيها قبل إنزال القرآن ، فجلَّاها الرب – جل جلاله - لعباده بما يزيل الخلاف
، ومن ذلك : قصة خلق عيسى عليه السلام وولادته بلا أب ، وطهارة أمه العذراء -
عليها السلام - ورفعه إلى الله - تعالى - حيًا في الدنيا ، ونزوله في آخر الزمان
حاكمًا بشريعة أخيه نبينا محمد عليهما الصلاة والسلام .
وقصة مريم وعيسى - عليهما السلام - مما وقع
فيه خلاف كبير بين طائفتي بني إسرائيل : اليهود والنصارى ، ولذلك ختم الله - تعالى
- هذه القصة العظيمة في آل عمران بقوله - سبحانه - : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن
فَيَكُونُ * الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ
حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ
أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ
الحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ العَزِيزُ
الحَكِيمُ } (
آل عمران : 59-62 ) ،
وقال - سبحانه - في شأن قصة مريم - عليها السلام -
: { ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ
إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ
إِذْ يَخْتَصِمُونَ } ( آل
عمران : 44 ) .
فمن أكبر أغراض سياق قصة مريم وعيسى -
عليهما السلام - بيان الحق من الباطل فيما نسجه أهل الكتاب حولهما من القصص
والأخبار ، وقد قال الله - تعالى - في موضع آخر : { إِنَّ هَذَا القُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ
الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ( النمل : 76 ) .
حاجة الخطيب إلى فقه القصة في القرآن
الكريم : ولو تأملنا في أحوال الناس وحاجاتهم لوجدنا أن الخطيب
محتاج إلى كل هذه الأغراض الهادفة من قصص القرآن ، وأن من
شأنها إصلاح أحوال الناس .
والخطيب إنما يريد من الناس أن يعتبروا
ويتعظوا ، وفي ذكر مآل المكذبين وعاقبة الظالمين أبلغ عظة وعبرة .
والخطيب محتاج إلى تثبيت الناس على إيمانهم
مع كثرة فتن السراء والضراء التي لا يكاد يسلم منها أحد في زمننا هذا ؛
وفي ذكر قصص ثبات الأنبياء وأتباعهم تثبيت لقلوب المؤمنين .
والخطيب يريد هداية من يستمعون إليه ،
وتأسِّيهم بالصالحين من البشر ، وفي ذكر قصص الأنبياء وأتباعهم حَثٌ على الاقتداء
بهم .
والخطيب لا يعرض في خطبته إلا ما يعتقد أنه
صدق وحق ، ويجب أن يربي الناس على تلمس الصدق واتباع الحق ، وقصص القرآن قد جلَّت لنا
الحقائق ، وبيَّنت الكذب والغبش في قصص السابقين .
تعامل الخطيب مع قصص القرآن :
المتأمل في القصص
القرآني يجد أنها من حيث من تتناوله القصة على أقسام ثلاثة :
القسم الأول : قصص الأنبياء - عليهم السلام
- ومنها قصص تكررت في أكثر من موضع ، وهي غالب قصص الأنبياء -
عليهم السلام - مع أقوامهم ، إضافة
إلى قصة آدم - عليه السلام - مع إبليس ، ومنها ما لم يتكرر بل جاء في موضع واحد من القرآن ، سواء كانت القصة
طويلة كقصة يوسف - عليه السلام - أو كانت
قصيرة كقصة إلياس عليه السلام .
القسم الثاني : قصص السابقين من غير
الأنبياء - عليهم السلام - مثل : أصحاب الكهف ، وصاحب الجنتين ، و ذي القرنين
،وأصحاب الجنة في سورة القلم ،
وقصة مريم عليها السلام في سورتي ( آل عمران ومريم ) .
القسم الثالث : قصص النبي محمد - عليه
الصلاة والسلام - مثل غزواته :بدر في ( الأنفال ) و أُحُد في ( آل عمران ) و الخندق وقريظة في ( الأحزاب
) وبني النضير في ( الحشر ) والحديبية في (
الفتح ) و تبوك في ( التوبة ) وإيلائه من نسائه في ( التحريم ) وقصة زواجه من زينب في ( الأحزاب ) .
أما من جهة طول هذه القصص وقصرها ، فهي على
أقسام ثلاثة أيضًا :
القسم الأول : قصص قصيرة وهي قليلة مثل : قصة إلياس عليه السلام في سورة ( الصافات ) وقصة يونس عليه السلام في
سور ( يونس والأنبياء والصافات ) وقصة
أيوب - عليه السلام - في سورتي ( الأنبياء وص ) ، وقصة أصحاب الأخدود في ( البروج ) وقصة الذي انسلخ من
آيات الله - تعالى - في ( الأعراف ) فهذه القصص وأمثالها يكفي الواحدة منها خطبة واحدة بدروسها وفوائدها ، وإن قصرت عن ذلك فلا تخلو من حالين :
الأولى : أن يجد الخطيب لها في السُّنة
والآثار ما يزيدها بحيث تصلح خطبة كاملة .
الثانية : أن لا يجد الخطيب في السُّنة
والآثار شيئًا ، وحينئذٍ لا بد من أن يضع الخطيب مدخلاً مناسبًا لخطبته يغطي النقص
الذي عنده .
مثال ذلك : يصدِّر الخطيب خطبته بالحديث عن
منزلة الأنبياء عند الله - تعالى - وفضلهم على البشرية ، وسيجد نصوصًا كثيرة في
ذلك ، ثم يأتي على قصة النبي الذي اختاره ؛ فإنْ اختار أن يخطب عن قصة أيوب عليه السلام
صدَّر خطبته بالحديث عن ابتلاء الله - تعالى - لأنبيائه وعباده الصالحين ، أو عن
فوائد الأمراض ، ويجعل قصة أيوب - عليه السلام - وصبره مع شدة ما أصابه من البلاء
مثالاً لذلك .
وهكذا في قصة يونس - عليه السلام - يتكلم عن
الابتلاء والصبر ، أو الكرب ودعاء المكروب .
وما من قصة إلا سيجد الخطيب لها مدخلاً
يناسبها بحيث لا تقصر عن أن تكون خطبة كاملة .
القسم الثاني : قصص متوسطة ، وهي الأكثر في القرآن ، مثل قصص هود وصالح
ولوط وشعيب - عليهم السلام - فهي وإن تكررت في الأعراف وهود والشعراء ...
وغيرها إلا أنها ليست طويلة في كل المواضع
التي تكررت فيها ؛ بحيث لو جمع الخطيب ما يتعلق بها من تفصيلات في كل موضع من
القرآن لناسب أن يجتمع منها خطبة واحدة ، فإن طالت فخطبتان .
وقريب منها قصص أصحاب الكهف وصاحب الجنتين
وذي القرنين وأصحاب الجنة في سورة ( القلم ) .
القسم الثالث : قصص طويلة جدًا لا يمكن للخطيب أن يعرضها في خطبة واحدة ،
وإلا لأطال على الناس كثيرًا ، وذلك مثل : قصص آدم ونوح و إبراهيم ويوسف - عليهم
السلام - وأطول منها قصة موسى عليه السلام مع فرعون ، فقد أبدى فيها القرآن وأعاد
، وكررها مطولة في ( الأعراف ، وطه ، والشعراء ، والقصص ، وغافر ) وجاءت أقل من
ذلك في ( يونس والنمل ) وجاءت مختصرة في ( هود ، والإسراء ، والذاريات ، والنازعات
) .
والمتأمل في هذه القصة العظيمة يلاحظ أن
تكرارها لا يخلو من فوائد وتفصيلات يكمل بعضها بعضًا : ففي سورتي ( طه والقصص )
تفصيل لولادة موسى - عليه السلام - ونشأته في بيت فرعون وكيف كان ذلك .
وفي ( الأعراف ويونس وطه والشعراء ) مناظرة
موسى - عليه السلام - لفرعون ، وقصة السحرة ، وانتهاء أمرهم إلى الإيمان ، وقيام
حجة موسى – عليه السلام - على فرعون .
وفي سورة ( غافر ) قصة الرجل المؤمن الناصح
الذي آزر موسى – عليه السلام - ودعا فرعون إلى الإيمان ، ومناظرته له في ذلك .
وهناك قصص أخرى لموسى - عليه السلام - مع
بني إسرائيل ومعالجته لعنادهم وعَنَتهم ، وصبره - عليه السلام - عليهم ، وقد جاء
تفصيل ذلك مطولاً في البقرة والأعراف وطه ، وأيضًا قصته - عليه السلام - مع الخضر
- رحمه الله تعالى - في سورة ( الكهف ) .
فهذه القصص المكررة الطويلة لا يحسن بالخطيب
أن يُعرِض عنها كليًا لما فيها من الطول ، ولا أن يعرضها بطولها فيثقل على الناس ،
وسيكون ذلك على حساب الدروس والفوائد المستخرجة منها ؛ لأن الغرض الأكبر من عرض
هذه القصص على الناس استخلاص العبر والدروس للعبرة والاقتداء .
وقد يعمد بعض الخطباء إلى اختيار موضع واحد
من القرآن وردت فيه القصة ، فيسوقها كما وردت فيه ، مع استخلاص العبر والدروس من
ذلك الموضع ، وهذا حسن إلا أنه لا يتأتى في المواضع التي جاءت فيها القصة مطولة ،
مثل : ( الأعراف وطه والشعراء والقصص ) وإلا لأطال على الناس ، كما أن فيه إهمالاً
لتفصيلات كاشفة لأمور مهمة من القصة جاءت في مواضع أخرى مع الحاجة إلى ذكرها .
توجيهات للخطيب في استعمال القصة القرآنية
الطويلة : الذي أراه مناسبًا في مثل هذه القصص الطويلة العظيمة أن
يتبع الخطيب الخطوات التالية :
أولاً : أن يجتهد الخطيب في جمع كل ما يتعلق
بالقصة من آيات في كل المواضع التي وردت فيها ، ولو كانت طويلة جدًا .
ثانيًا : يضم إليها ما صح من الأحاديث عن النبي
-عليه الصلاة والسلام- مما له تعلق بالقصة أو بعض أجزائها .
ثالثًا : يراجع كتب التفسير ، وشروح الحديث ، وكتب
التاريخ ، وقصص الأنبياء ، فيجمع منها ما زاد على ما وجده في الآيات والأحاديث من
كلام الصحابة أو التابعين مما هو كاشف لبعض المواضع التي فيها غموض ، أو فيه جمع
لما ظاهره التعارض .
رابعًا : عليه أن يجتنب الإسرائيليات في ذلك ؛ لأنها
ستطيل بحثه بلا طائل ، ولأن التفصيلات الموجودة فيها - وإن هفت النفوس إليها - لا
دليل عليها ، ولا يحل للخطيب أن يفتن العامة بها ؛ فكثير من الناس لا يفرقون بينها
وبين ما جاء عن النبي - عليه الصلاة والسلام - وليس لهم دراية في التعامل مع أخبار
بني إسرائيل ، وبمجرد سماعهم لها من الخطيب سيحملونها على محمل التصديق والتسليم .
وهناك كتب حذرت من بعض ما جاء في
الإسرائيليات من تفصيلات ، وبينت ما فيها من معارضة للقرآن والسُّنة ، وكتب أخرى
عُنِيَتْ بما صح من تفصيلات هذه القصص ، وردِّ ما لم يصح منها ، وهذه الكتب مما يعين
الخطيب في بحثه ، ويزيد من علمه بقصص القرآن ، ويقوي مَلَكة النقد لديه .
خامسًا : أرى أن يتأمل الخطيب في نصوص القصة ، ويحاول
استنباط الدروس والفوائد منها ، ويقيد ذلك قبل أن يراجع كتب التفسير والشروح وقصص القرآن
؛ وذلك لتنمية ملكة الاستنباط لديه ، ولينظر ما وافق هو فيه غيره ، وقد يفتح الله
- تعالى - عليه بفوائد لم يُسبق إليها ، بخلاف ما إذا بدأ يجمع فوائد القصة
ودروسها من الكتب التي سبقته فإنه يكون قد رَهَن عقله لها ؛ فلا ينشط في التفكير
والاستنباط .
سادسًا : يجمع الدروس والفوائد المستفادة من هذه
القصص ، ومظنتها كتب التفسير وشروح الأحاديث ، إضافة إلى كثير من الكتب التي عُنيت
بقصص الأنبياء ، أو بالقصص القرآني ، وبعضها عامٌّ في كل القصص ، وبعضها مخصوص في قصة
بعينها ، وغالبًا ما يركز أصحاب هذه الكتب - وبالأخص المعاصرة منها - على الدروس
المستفادة من القصة .
سابعًا : أن يحذر من كتابة القصة أو بعض أجزائها على
فهمه هو للآيات دون مراجعة كتب التفسير ، ولو كتابًا واحدًا موثوقًا ؛ فقد يقع في
الخطأ وهو لا يعلم فيأتي بمعنًى في القصة أو الآية ليس بصحيح ، وقد يأتي بمعنى
مرجوح يرسخه في أذهان الناس ويهمل الراجح ، وكونه يعلم المعنى الآخر في القصة أو
الآية – سواء كان مرجوحًا أو مساويًا للمعنى الذي اختاره - مما يفيده في الإلمام
بالمعاني ، ويخلصه من حرج المناقشين والمتعقبين عليه .
ومن الأمثلة التي وقعت لي في ذلك : قول الله
- تعالى - : {
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ ءَالِ
فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاَءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } ( البقرة : 49 ) ، وقد تكرر معنى هذه الآية في سورة الأعراف
آية ( 141 ) وفي سورة إبراهيم آية ( 6 ) وكنت آخذ الآية على ظاهرها فيما بدا لي
فأجعل البلاء الابتلاء بهذا التعذيب ؛ من تقتيل الأبناء واستحياء البنات ، ولا
سيما أنه موصوف بأنه عظيم ، حتى نبهني أحد الإخوة من طلبة العلم إلى أن الطبري يرى
أن البلاء هنا بمعنى النعمة ، وأنه يعود على الإنجاء من فرعون وظلمه ، فراجعت ما
قال لي فوجدت هذا المعنى منقولاً عن ابن عباس و مجاهد و أبي العالية و أبي مالك و
السدي وغيرهم ، ورجحه ابن جرير وقال : « أكثر ما يقال في الشر : بلوته أبلوه بلاءً
، وفي الخير أبليه إبلاء وبلاءً » ، والقول الثاني في الآية أن المعنى البلاء
بفرعون وتقتيله لبني إسرائيل ، وحكاه القرطبي عن الجمهور [1] .
ثامنًا : بعد اكتمال مادة الجمع عنده سيجد أن القصة
تحتاج إلى خطب كثيرة ليغطي الموضوع بأكمله ، فيقسم القصة إلى وحدات متنوعة يجعل كل
واحدة منها موضوعًا لخطبة مستقلة ، ويكون تقسيمه لها على وجهين : الأول : أن
يقسمها بحسب الزمان ، وتسلسل الأحداث فيه .
مثال ذلك : يقسم قصة موسى - عليه السلام -
على الزمن الذي عاشه ، ويسوق الأحداث بالنسبة لذلك الزمن ، فيتحصل عنده مجموعة من
الخطب على النحو التالي :
1 - أحوال بني إسرائيل تحت حكم فرعون وجنده
قبل ولادة موسى – عليه السلام - ويُجمِل فيها الكلام عن موسى - عليه السلام - وأنه
كان نعمة من الله - تعالى - على بني إسرائيل وخلاصًا لهم .
2 - قصة حمل أم موسى به وولادته ، ونشأته في
منزل فرعون .
3 - بعث موسى - عليه السلام - وهجرته إلى
مدين .
4 - عودته إلى مصر مرة أخرى ، وتكليم الرب -
جل جلاله - إياه .
5 - دعوته لفرعون ومناظراته إياه في
الربوبية والعبودية .
6 - تكذيب فرعون واستعانته بالسحرة وإيمانهم
بموسى عليه السلام .
7 - مطاردة فرعون وجنده لموسى - عليه السلام
- ومَنْ معه ، وهلاك فرعون ونجاة موسى عليه السلام .
الثاني : أن يقسمها بحسب الموضوع ، ولا يهمه سرد
القصة وأحداثها وترتيبها .
مثال ذلك : أن يقسم قصة موسى عليه السلام مع
فرعون على موضوعات لا يراعي فيها الزمن بقدر ما يراعي الأحداث والصفات المتعلقة
بموضوعه ، وذلك أشبه ما يكون بطريقة التفسير الموضوعي ، وذلك كما يلي :
1 - مظاهر طغيان فرعون من خلال قصته في كل
السور التي وردت فيها .
2 - حاجة الظلمة إلى أعوان ، وصفات هؤلاء
الأعوان ، وذلك من خلال ما قصَّ الله - تعالى - عن الملأ من قوم فرعون ، وخاصة
هامان ، وأعماله التي ساند فيها فرعون .
3 - وصف الأذى الذي لحق ببني إسرائيل قبل
مبعث موسى - عليه السلام - وبعده .
4 - ضعف بني إسرائيل وهوانهم ، واستكانتهم
لظلم الظالمين ، ومظاهر ذلك من الآيات القرآنية .
5 - اصطفاء موسى - عليه السلام - مخلصًا
لبني إسرائيل ، وتربيته في بيت عدوه .
6 - فضائل موسى - عليه السلام - من خلال
إيمانه بالله - تعالى – وثقته به ، وتوكله عليه ، وقوته في الحق ، وصبره على الأذى
فيه .
7 - عاقبة المؤمنين النصر ، ونهاية
المستكبرين العذاب ، وجعل قصة موسى وفرعون أنموذجًا لذلك ، بوصف أعمال الفريقين ،
وبيان عاقبتهما .
فهذه موضوعات سبعة في كل قسم بدت لي ابتداءً
، وقد تزيد مع جمع مادة القصة من مصادرها .
إضافة إلى أن لموسى - عليه السلام - قصصًا
أخرى مع بني إسرائيل بعد هلاك فرعون يُتحصل منها عدد من الخطب ليس بالقليل ، سواء
تناولها الخطيب بحسب زمنها أو تناولها بحسب موضوعاتها ، وهكذا قصة موسى والخضر
عليهما السلام .
ولست هنا أدعو الخطيب إلى أن يجعل هذه الخطب
مسلسلة ، في كل جمعة يخطب بواحدة حتى ينهيها ، بل الذي أراه أن يجعل كل خطبة
مستقلة عن الأخرى ، ويخطب بها بين الحين والآخر حسب الحاجة حتى ينتهي منها .
ولو رأى أن يسلسل قصة من القصص حتى ينهيها
فالأمر واسع ، والخَطْب يسير ، وهو محل اجتهاد بما يحقق المصلحة ، وقد يناسب ذلك
في بعض المساجد دون غيرها ، لكني أرى أنه من غير المستحسن أن يبدأ في قصص القرآن
فلا يخرج منها إلى غيرها حتى ينتهي منها كلها ؛ لأن ذلك سيطول وقد يستغرق سنوات ،
وسيكون على حساب موضوعات أخرى مهمة ، وقد سبق أن بيَّنت مفاسد جمود الخطيب على فن
من الفنون يخطب فيه ولا يتعداه [2] .
تاسعًا : سيجد الخطيب أثناء الجمع تعليقات على بعض
مواضع القصة مؤثرة جدًا عن الصحابة أو التابعين أو الأئمة بعدهم ، فعليه أن يعتني
بها ، ويؤكد عليها ، ويضعها في مواضعها اللائقة بها ، فإن ناسب أن يذكرها في
موضعها من القصة فذاك ، وإن رأى أنَّ إيرادها في سياق القصة سيقطعها ويشوش على
المستمعين ولا ينتفعون بها فليجعلها في الدروس ولا يهملها .
ومما يحضرني في ذلك :
1 - في قول الله - تعالى - : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا } ( مريم : 53 ) وقوله - سبحانه - عن موسى أنه قال : { هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي
أَمْرِي } (
طه : 30-32 ) ، وقوله
- تعالى - : {
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } ( القصص : 35 ) قال بعض السلف : « ليس أحد أعظم مِنَّةً
على أخيه من موسى على هارون - عليهما السلام - فإنه شفع فيه حتى جعله الله نبيًا
ورسولاً معه إلى فرعون وملئه ولهذا قال الله - تعالى - في حق موسى : { وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا } ( الأحزاب : 69 ) [3] .
بناء الخليل - عليه السلام - للبيت ، عن
وهيب بن الورد - رحمه الله تعالى - : « أنه قرأ { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ } ( البقرة : 127 ) فجعل يبكي ويقول : يا خليل الرحمن ! ترفع
قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يقبل منك ! » [4] .
3 - في قصة موسى - عليه السلام - وقول الله
- تعالى - : {
فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً
لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } ( طه : 44 ) قال يزيد الرقاشي - رحمه الله تعالى - : «
يا من يتحبب إلى من يعاديه ؛ فكيف بمن يتولاه ويناديه ؟ »[5].
وقُرئت عند يحيى بن معاذ فبكى وقال : « إلهي
! هذا رفقك بمن يقول : أنا الإله ؛ فكيف رفقك بمن يقول : أنت الله ؟ » [6] .
4 - في دعاء الخليل - عليه السلام - حين قال
: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ
} (
إبراهيم : 35 ) قال
إبراهيم التيمي - رحمه الله تعالى - : « من يأمن البلاء بعد الخليل حين يقول :
واجنبني وبني أن نعبد الأصنام كما عبدها أبي وقومي » [7] .
إيرادات والجواب عنها :
الإيراد الأول : إن هذه الطريقة المقترحة
لتعامل الخطيب مع القصص القرآني تحتاج إلى وقت طويل ، والخطبة متكررة كل جمعة ،
فأنَّى للخطيب أن يجد الوقت لمثل هذا العمل الكبير ، ولديه أعمال أخرى ؟وجواب ذلك
كما يلي :
1- إن مثل هذا البحث وإن أخذ جزءًا ثمينًا
من وقته ، فإنه يريحه أيضًا جمعات كثيرة يكون عنده لها رصيد من الموضوعات قد
أعدَّه وجمع مادته ، ولم يبق إلا الصياغة ، وذلك يوفر عليه وقتًا طويلاً فيما لو
أراد إعداد خطبة لكل جمعة .
ولو أن الخطيب فعل مثل ذلك في كل الموضوعات
الطويلة ، سواء كانت في القصص ، أو العقائد ، أو العبادات ، أو الأخلاق ، أو
السيرة ، أو القضايا المعاصرة ... أو غيرها لتحصَّل له كمٌّ كبير من الموضوعات
الجاهزة التي لا تحتاج منه إلا إلى صياغة فقط ، وهذا يريحه كثيرًا في اختيار موضوع
خطبته وفي كتابتها ؛ فلا تستنزف منه وقتًا طويلاً .
2- قد يضيق الوقت على الخطيب في بعض الجُمَع
لظرف طارئ لم يحسب حسابه فلا يتمكن من جمع مادة خطبته ، فتكون هذه المواد المجموعة
سابقًا معينة له على الالتزام بكتابة خطبة جديدة وجيدة رغم ما عَرَض له من مشاغل
وعوائق ، بخلاف ما لو لم يكن عنده مادة محضرة فسيضطر للإعادة ، ولو كتب خطبة جديدة
دون تحضير وجَمْع فستكون خطبة ضعيفة .
الإيراد الثاني : قد ينازع بعض الناس ،
فيقول : إن الخطبة مجرد موعظة وتذكير بما يفتح الله - تعالى - على الخطيب ، وقد
كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يخطب بما يحتاج الناس إليه .
وجواب ذلك من وجهين :
1 - إن من أبلغ المواعظ والتذكير الموعظة
بقصص القرآن ، وتكرارها في القرآن ، وطولها في بعض السور يدل على أهميتها في الوعظ
والتذكير ، وأن لها أثرًا كبيرًا في نفس قارئها وسامعها ، ومن لم يتعظ بالقرآن
وآياته وقصصه فلا واعظ له .
2 - إن الخطبة بقصص القرآن مما يحتاج الناس
إليه ؛ لما فيها من الفوائد الكثيرة ، ولتشوُّف نفوس السامعين إلى القصص ، ومحبتهم
لها ، وتأثُّر قلوبهم بها .
الإيراد الثالث : قد يرى بعض الناس أن
الخطبة ليست بحثًا ؛ فلا تحتاج إلى كل هذا الجمع ، ويكفي الخطيب أن يعرض لظاهر
القصة ويختار منها ما يراه مناسبًا ، ولا يحتاج إلى صنع أكثر من خطبة في القصة
الواحدة .
وجواب ذلك من أوجه :
1 - إن الاقتصار في الموضوعات الطويلة -
ومنها بعض قصص القرآن - على خطبة واحدة سيلجئه إلى إطالتها بما يشق على المصلين ،
أو سيهمل ما هو مهم فيها وهذا قصور .
2 - إن من فعل ذلك سيكتفي بالعموميات ،
والاقتصار على العموميات أقل فائدة وتأثيرًا على المصلين من الغوص في أعماق
الموضوع ، واستخراج النكت والفوائد والدروس منه ، والعموميات يفهمها أكثر المصلين
، وربما كان إدراكهم لبعض التفصيلات أكثر من إدراك الخطيب .
3 - إن الخطيب هو أول المستفيدين من بحوثه
التي يجمعها للخطبة ؛ فذلك يزيد في معلوماته ، ويرسخ الموضوعات التي بحثها في ذهنه
بدقائقها ونكتها ومسائلها ، والذي أراه أن البحث هو أقوى وسيلة لتحصيل العلم
وترسيخه ، وتقوية ملكة النظر والنقد والترجيح والاجتهاد ؛ فعلامَ يحرم الخطيب نفسه
هذه الثمرات العظيمة ببعض جهد يبذله في شعيرة هي من أعظم الشعائر ، فينفع نفسه
وينفع إخوانه المسلمين ؟
4 - إن أي خطبة لم تكتب إلا بعد جمع وبحث
ونظر ستحوي فوائد ونكتًا لا توجد في غيرها ، وهذا مما يطيل أمد تداولها ، ويجعل
الناس يتناقلونها على أوسع نطاق ، وربما وقعت في أيدي خطباء فخطبوا بها لفائدتها
ونفاستها ، وقد يستفيد من بعض ما فيها عالم كبير ، أو طالب علم مبرَّز ، أو داعية
مشهور ، أو كاتب مرموق ، والفضل في ذلك - بعد الله تعالى - يعود لمن كتبها .
وواجب على الخطيب أن لا يحتقر عقول المصلين
معه ولو كانوا من العوام ؛ فإن أغلبهم يميزون جيد الكلام من رديئه ، ويدركون أكثر
ما يخاطَبون به ، كيف لا وما من جامع إلا وفيه متعلمون ودارسون حتى جوامع القرى
والهجر ، بما منَّ الله - تعالى - على الناس من نهضة التعليم والدراسة في هذا
العصر ؟ويبدو لي أن من أهم أسباب ضعف الخطبة في هذا العصر ، وقلة تأثيرها في نفوس
المستمعين هو عدم التحضير الجيد لها ، والاكتفاء بعموميات الموضوع الذي يختاره
الخطيب ، حتى بلغ الأمر ببعض الخطباء أنك تستمع إلى خطبته فلا تجد موضوعًا واحدًا
لها ، وإنما يتشعب في أودية كثيرة ، ويتكلم عن موضوعات عدة في آن واحد ، بل ربما
جاوز الموضوع ثم عاد إليه مرة أخرى في خطبته نفسها ، ولست أدري كيف كتبها ؟
(1) انظر : تفسير الطبري : 1/274-275 ،
وتفسير القرطبي : 1/387 ، وتفسير ابن كثير :1/ 91-92 .
(2) انظر : البيان ، العدد (209) ص (28) .
(3) تفسير ابن كثير : 3/390 .
(4) تفسير ابن أبي حاتم : 1/233 .
(5) تفسير ابن كثير : 3/154 .
(6) تفسير الألوسي : 16/195 .
(7) تفسير القرطبي : 9/368 .