من
نافلة القول أن الدعوة إلى الله - عز وجل - من أجلِّ الأعمال وأشرفها ؛ فهي مهمّة
الرسل - عليهم الصلاة السلام - وقد خُصَّت بها هذه الأمة من بين سائر الأمم من لدن آدم - عليه السلام - حتى بعثة
محمد صلى الله عليه وسلم .
غير
أن الناظر إلى الساحة اليوم يجد انصرافاً - إن لم يكن إعراضاً - عن هذه المهمّة
العظيمة من قِبَلِ أناسٍ كان يُفترض فيهم أن يكونوا هم أهل الميدان المنتظرين ،
وقادته المبرّزين .
هؤلاء
الأفراد على مستويً عالٍ من التربية الإسلامية والفهم الصحيح ،ويجمعون إلى ذلك
ذكاءاً وَقَّاداً ومعرفة بالعلوم الشرعية لا يستهان بها .
ولكنّ
المعادلة غير المفهومة تنشأ عندما نرى هذه الفئة من المؤهلين تدير ظهرها لهذه
المهمّة -أعني الدعوة إلى الله- وتنشغل بما ينشغل به عامَّة الناس من الانخراط في
الوظيفة والعمل الدنيوي ، وقد يجمعون إلى جانب انشغالهم ذاك توزيع كتاب أو شريط
إسلامي أو القيام بعمل دعوي محدد أيّاً كان - كأثرٍ من آثار الضغط الذي تفرضه
عليهم التربية التي تلقوها في سنين ماضية - ظانين بذلك أنهم قد أدّوا ما عليهم
تجاه الفكرة التي يحملونها .
هذا
الفراغ الهائل الذي خلّفه هؤلاء النفر ، دفع أناساً ممّن ليست لديهم الخبرة
الكافية ولم يبلغ علم أحدهم النصاب الشرعي[1] -وربما لم ينخرط الواحد منهم في أي برنامج تربوي
طيلة حياته - إلى أن ينزلوا إلى ميدان الدعوة وليس لديهم عُدَّة سوى العاطفة
الصادقة ، والإحساس بالمسؤولية تجاه الدين الذي هم به يؤمنون .
إن
هذه الصورة غير المتوازنة تثير في النفس الشعور بالأسى والإعجاب في آن واحد :
-
الأسى لواقع أولئك المتخلفين عن قافلة الدعوة مع قدرتهم وتمكنهم .
-
والإعجاب بأولئك المتقدمين - على قلة بضاعتهم - وأذكر عن أحد هؤلاء المتقدمين قوله
لأحد الزملاء : ( أنا قليل الفهم في العلم
الشرعي ؛ ولكنني أستطيع أن أقف على باب المسجد وأوزّع على الناس أشرطة أو كتيبات ،
أليس الدال على الخير كفاعله ؟ ) لقد قلت
في نفسي : هو - والله - أفقه من كثيرٍ ممن لديهم الكثير من العلم الشرعي ! قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سبق
درهم مائة ألف درهم : رجلٌ له درهمان أخذ أحدهما فتصدّق به ، ورجلٌ له مالٌ كثير
فأخذ من عرض ماله مائة ألفٍ فتصدَّق بها )[2] .
وهكذا
سبق درهم الفقير مائة ألف الدرهم التي للغني ؛ لأنَّ الدرهم كان نصف مال الفقير ،
ومائة ألف درهم كانت شيئاً من مال ذلك الغني .
وبالمثل
حال أولئك النفر من الناس الذين يملكون قدرات ومواهب ولا يستثمرون منها إلا النزْر
اليسير يجعلونه لدعوتهم ، وحال أولئك الذين ليس لديهم إلا القليل من المعرفة
والفهم ولكنهم قد بذلوه كله في سبيل دعوتهم ؛ فإن درهم هؤلاء لا شك يسبق دنانير
أولئك المكدّسة ! فإلى إخواننا الذين هجروا الميدان قبل أن يلجوه ، وظنّوا أنهم قد
أدَّوْا ما عليهم وزيادة ، إليكم ما قاله أبو مالك - رحمه الله - : ( كم من رجلٍ يرى أنه قد أصلح شأنه ، قد أصلح
قربانه ، قد أصلح همّته ، قد أصلح عمله ، يُجْمَع ذلك يوم القيامة ثم يُضرَب به
وجهه ! )[3] .
قال
- تعالى - : { وإن
تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } [محمد : 38] .
(1) أقصد بالنصاب الشرعي كل ما يلزم معرفته من الدين بالضرورة من
أمور العقيدة والفقه ونحوها.
(2) ترتيب أحاديث الجامع الصغير ، عوني الشريف ، المجلد الأول ،
كتاب الزكاة ، باب الترغيب في الصدقة والنفقة ، ح/28 .
(3) أين نحن من أخلاق السلف ؟ جمع الجليل وعقيل ، ص10 .