• - الموافق2024/11/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الاستغفار للآخر

الاستغفار للآخر

قال - تعالى - : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } ( محمد : 19 ) .

آية من آيات الذكر الحكيم ، ترشد المسلم إلى خُلق كريم ، بعد العلم بالله والرجوع إليه بالاستغفار للنفس ، إلى الاستغفار للآخر من أفراد هذه الأمة من المؤمنين والمؤمنات .

فالإنسان المسلم شاء أم أبى يحيا حياته ساعةً فساعة ؛ تارةً في الطاعة وتارةً يقع في العصيان ، لذلك شرع - سبحانه - لعباده الاستغفار ، كما منح على هذا الفعل مِنَحاً لا تُعدُّ ولا تُحصى ؛ يكفي لبيانها - لمعرفة عظيم نفع الاستغفار وأثره - استحضارُ قوله - تعالى - : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا } ( نوح : 10-12 ) .

وفعل الاستغفار يقوم به المسلم الأوَّاب تجاه نفسه في أغلب الأحيان ، وهذامطلوب من كل إنسان ، لكن حديثي ينحصر في علاقة المسلم بأخيه المسلم ، ومدى حب الخير له عند حاجته إليه ، أو عند تعرُّضه لأفعال تُغْضِب وتكرهها النفس ؛ إنه الاستغفار للآخر .

خصلة دعا إليها القرآن وحثَّ عليها سيد ولد عدنان - صلى الله عليه وسلم - ، وتمثَّلها السلف الصالح في سلوكهم ودعوا إليها في كل الأحوال .

الأنبياء والاستغفار للآخر من خلال القرآن :

- حدثنا القرآن الكريم عن أنبياء الرحمن كيف تمثَّلوا الاستغفار للآخر فقال - سبحانه - كما جاء على لسان نبي الله نوح عليه السلام : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا } ( نوح : 28 ) .

- وجاء على لسان خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام كما ذكر القرآن الكريم : { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ } ( إبراهيم : 41 ) .

- كما جاء على لسان إخوة يوسف مع أبيهم في قوله - تعالى - : { قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ } ( يوسف : 97-98 ) .

الرسول - صلى الله عليه وسلم - والاستغفار للآخر : ولعل قدوتنا هو خير من تمثَّل هذا الفعل القويم ، ودعا إليه وحثَّ عليه ، فقال من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - : « ارحموا تُرحموا ،واغفروا يغفر الله لكم ، ويلٌ لأَقْمَاع القول ، ويل للمصرِّين الذين يصرُّون على ما فعلوا وهم يعلمون » [1] .

كما استغفر حبيب الله - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين ، وكان يستغفر لكل من طلب منه ذلك ؛ ليجعله من أخلاق أمته وديدنهم ، وكيف لا وهو يقول : « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » [2] .

ومن الأمثلة على ذلك :

- ما رواه أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : « لما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من حنين ، بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس ، فلقي دُرَيْدَ بن الصِّمَّة فقُتل دريد وهزم الله أصحابه ، قال أبو موسى : وبعثني مع أبي عامر فرُمي أبو عامر في ركبته رماه جُشَمِيٌّ بسهم فأَثْبَتَهُ في ركبته فانتهيتُ إليه ،فقلت : يا عمِّ ! من رماك ؟ فأشار إلى أبي موسى ، فقال : ذاك قاتلي الذي رماني ، فقصدتُ له فلحقته ؛ فلما رآني ولَّى فاتَّبعته وجعلت أقول له : ألا تستحيي ؟ ألا تثبُتُ ؟ فكفَّ ، فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته ، ثم قلت لأبي عامر : قتل الله صاحبك ، قال : فانزع هذا السهم ، فنزعته فَنَزَا منه الماء ، قال : يا ابن أخي ! أقرِئ النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام وقل له : استغفر لي .

واستخلفني أبو عامر على الناس ، فمكث يسيراً ثم مات ، فرجعت فدخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته على سرير مُرْمَلٍ وعليه فراش قد أثَّر رمالُ السرير بظهره وجنبيه فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر ، وقال : قل له :استغفر لي ، فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه ، فقال : اللهم اغفر لعُبَيد أبي عامر ، ورأيت بياضَ إبطيه ، ثم قال : اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس . فقلت : ولي فاستغفر ، فقال : اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبَه وأدخله يوم القيامة مُدْخلاً كريماً » [3] .

- وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال : « أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فصليت معه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم تبعته وهو يريد يدخل بعض حُجَرِه ، فقام وأنا خلفه كأنه يكلم أحداً ، قال : ثم قال : من هذا ؟ قلت :حذيفة ، قال : أتدري من كان معي ؟ قلت : لا ، قال : فإن جبريل جاء يبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، قال : فقال حذيفة : فاستغفر لي ولأمي قال : غفر الله لك يا حذيفة ! ولأمك » [4] .

طلب الاستغفار من الصالحين : لم تكتف شريعة الرحمن بطلب الاستغفار من الإنسان للحصول على مغفرة الديّان ، بل أعطته إمكانية الحصول على هذه المنحة بطلبها ممن يلتمس فيهم الخير والصلاح ، ومن الأمثلة المبينة لذلك ما يلي :

- روى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لصحابته الكرام : « إن خير التابعين رجل يقال له : أويس ، وله والدة هو بها برّ ، لو أقسم على الله لأبرَّه وكان به بياض ، فمُرُوه فليستغفر لكم »[5].

- كما أخرج الطبراني عن أبي ذر قال : مرَّ فتى على عمر ، فقال عمر : نِعْمَ الفتى ! فتبعه أبو ذر فقال : يا فتى ! استغفر لي .

فقال : أستغفر لك وأنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ ! قال : استغفر لي ، قال : ألا تخبرني ؟ قال : إنك مررت على عمر فقال : نعم الفتى ! وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه » [6] .

استغفار العالمين لعباد الله المؤمنين :

- أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن فعل الاستغفار مبثوث في الكون ، حيث إن كل خلائق الله تستغفر للمؤمنين ، وخص من ذلك صاحب العلم ، حيث روى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « صاحب العلم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر » [7] .

وفي رواية أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « إنه ليستغفر للعالم من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر » [8] .

- وتستغفر ملائكة رب العالمين كذلك للمؤمنين فقد روى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « ما من رجل يعود مريضاً ممسياً إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح ، وكان له خريف في الجنة .

ومن أتاه مصبحاً خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي وكان له خريف في الجنة » [9] .

- وأخرج الطبراني في الكبير عن عبد الله بن المُخارق عن أبيه المُخارق بن سليم أن عبد الله كان يقول : « إذا حدثتكم بحديث أتيتكم بتصديق ذلك من كتاب الله ، إن العبد المسلم إذا قال : الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله ؛ قبض عليهن ملك فجعلهن تحت جناحه ، ثم صعد بهن ؛ فلا يمر على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بهن وَجْهَ الرحمن - تعالى - . ثم قرأ عبد الله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } ( فاطر : 10 ) [10] .

أثر استغفار المؤمنين لبعضهم :

- جعل - سبحانه - استغفار المؤمن للمؤمن من الأفعال المحققة للشفاعة ، حيث روى ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي الأمين صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما من أربعين من مؤمن يستغفرون لمؤمن إلا شفعهم الله فيه »[11] .

- وبيَّن أن أثر هذا الفعل كما يناله الأحياء ينتقل أثره إلى الأموات ؛ حيث حث - صلى الله عليه وسلم - على الاستغفار للأموات بعد دفنهم ، فقال – صلى الله عليه وسلم - كما روى عنه عثمان - رضي الله عنه - : « استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت ؛ فإنه الآن يُسأل » [12] .

- وفي رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال : نعى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه ؛ فقال : « استغفروا لأخيكم » [13] .

السلف الصالح واستغفارهم للمسلمين:لقد تربَّى السلف الصالح على هذا الخُلق وصار ديدنهم مع بعضهم ، يستغفرون للمخطئ كما يستغفرون للمصلح ، أو لمن أسدى إليهم معروفاً .

- ومن الأمثلة على استغفارهم لمن أسدى إليهم معروفاً : ما روي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك - رضي الله عنهما - قال : « كنت قائد أبي حين ذهب بصره ، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان استغفر لأبي أمامة أسعدَ ابن زرارة ودعا له ، فمكثت حيناً أسمع ذلك منه ، ثم قلت في نفسي : والله إن ذا لعَجْزٌ إني أسمعه كلما سمع أذان الجمعة يستغفر لأبي أمامة ويصلي عليه ولا أسأله عن ذلك لِمَ هو ؟ فخرجت به كما كنت أخرج به إلى الجمعة فلما سمع الأذان استغفر كما كان يفعل ، فقلت له : يا أبتاه ! أرأيتك صلاتك على أسعد بن زرارة كلما سمعت النداء بالجمعة لِمَ هو ؟ قال : أَيْ بُنَيَّ ! كان أول من صلى بنا صلاة الجمعة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة .. » [14] .

- كما يروى أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لما حصل لعائشة ما حصل من أهل الإفك وأنزل الله - تعالى - في براءتها : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ } ( النور : 11 ) .

قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان ينفق على أحدهم ، وهو مِسْطَح بن أثاثة ؛ لقرابته منه : واللهِ ! لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعدما قال لعائشة .

فأنزل الله - تعالى - : { وَلاَ يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي القُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ( النور : 22 ) .

فقال أبو بكر : بلى ؛ والله ! إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح الذي كان يُجري عليه [15] .

- وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - نال من عمر - رضي الله عنه - شيئاً ، ثم قال : استغفر لي يا أخي ! فغضب عمر ، فقال له ذلك مراراً ، فغضب عمر ، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - وانتهوا إليه وجلسوا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يسألك أخوك أن تستغفر له فلا تفعل ؟ ! » ، فقال : والذي بعثك بالحق نبياً ! ما من مرة يسألني إلا وأنا أستغفر له وما من خلق الله بعدك أحد أحب إليَّ منه ، فقال أبو بكر : وأنا والذي بعثك بالحق ما من أحد بعدك أحب إليَّ منه ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : « لا تؤذوني في صاحبي ؛ فإن الله - عز وجل - بعثني بالهدى ودين الحق ؛ فقلتم : كذبت ، وقال أبو بكر : صدقتَ ، ولولا أن الله - عز وجل - سمَّاه صاحباً لاتَّخذته خليلاً ، ولكن أخوة الله ، ألا فسُدُّوا كل خوخة إلا خوخة ابن أبي قحافة » [16] .

- وأخرج الحاكم في مستدركه عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال : « وأعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرضاً ، وأعطى أبا بكر أرضاً ؛ فاختلفنا في عذق [17] نخلة . قال : وجاءت الدنيا ، فقال أبو بكر : هذه في حدي ، فقلت : لا ، بل هي في حدي .

قال : فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها وندم عليها ، قال : فقال لي : يا ربيعة ! قل لي مثل ما قلت لك حتى تكون قصاصاً ، قال : فقلت : لا ، والله ما أنا بقائل لك إلا خيراً ، قال : والله لتقولن لي كما قلت لك حتى تكون قصاصاً وإلا استعديت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فقلت : لا ، والله ما أنا بقائل لك إلا خيراً ، قال : فرفض أبو بكر الأرض ، وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعلت أتلوه ، فقال أناس من أسلم : يرحم الله أبا بكر هو الذي قال ما قال ويستعدي عليك ؟ !

قال : فقلت : أتدرون من هذا ؟ هذا أبو بكر ، هذا ثاني اثنين ، هذا ذو شيبة المسلمين ، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب ، فيأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيغضب لغضبه ، فيغضب الله لغضبهما فيهلك ربيعة ، قال : فرجعوا عني وانطلقت أتلوه حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقصَّ الذي كان ، قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا ربيعة ! ما لك والصديق ؟ قال : فقلت مثل ما قال كان كذا وكذا ، فقال لي : قل : مثل ما قلت لك ؛ فأبيت أن أقول له ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أَجَل ! فلا تقل له مثل ما قال ، ولكن قل : يغفر الله لك يا أبا بكر ! قال : فولَّى الصديق - رضي الله عنه - وهو يبكي » [18] .

وفي نصٍّ جميل من آثار سلفنا الصالح يتبين لنا الخُلق الرفيع ، المتمثل في الاستغفار للآخر بعد وقوعهم في أعراض المستغفرين لهم ، حيث يروي لنا عصام بن المُصطَلق قال : ( دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي - رضي الله عنهما - فأعجبني سَمْتُه وحسن رُوائه ، فأثار مني الحسد ما يُجنّه صدري لأبيه من البُغض ، فقلت : أنت ابن أبي طالب ؟ ! قال : نعم ، فبالغت في شتمه وشتم أبيه ، فنظر إلي نظرة عاطف رؤوف ،ثم قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم { خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ } ( الأعراف : 199 ) ، فقرأ إلى قوله : { فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } ( الأعراف : 201 ) ، ثم قال لي : خفِّض عليك ، أستغفر الله لي ولك ، إنك لو استعنتنا أعنَّاك ، ولو استَرْفَدْتَنَا أرفدناك ، ولو استرشدتنا أرشدناك ، فتوسّم فيَّ الندم على ما فرط مني ؛ فقال : { قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } ( يوسف : 92 ) ، أمن أهل الشأم أنت ؟ قلت : نعم ! فقال : شِنْشِنَةٌ أعْرِفُها من أَخْزَم حيَّاك الله وبيَّاك وعافاك وآدَاك ، انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك تجدنا عند أفضل ظنك إن شاء الله ، قال عصام : فضاقت علي الأرض بما رحبت ،وودِدت أنها ساخت بي ، ثم تسلَّلت منه لِوَاذاً وما على وجه الأرض أحبُّ إليَّ منه ومن أبيه ) [19] .

أناس لا يستغفر لهم : إن خُلق الاستغفار للآخر لا يصل إليه إلا من رضي عنه ربه ، ولكنه مع ذلك محصور بين المسلمين ، لا يلج بابه المنافقون والمشركون ؛ حيث قال - سبحانه - في بيان منعه على المنافقين : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ } ( التوبة : 79-80 ) .

قال ابن كثير : ( يخبر - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم – بأن هؤلاء المنافقين ليسوا أهلاً للاستغفار ، وأنه لو استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) [20] .

- أما منعه على المشركين فقال - سبحانه - : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } ( التوبة : 113-114 ) .

وأخرج البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره : « أنه لما حضرت أبا طالب الوفاةُ جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل بن هشام و عبد الله بن أمية بن المغيرة ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب : يا عمِّ ! قل : لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله .

فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية : يا أبا طالب ! أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله .

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما واللهِ لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك . فأنزل الله - تعالى - فيه : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ } الآية » [21] .

هذا هو الاستغفار للآخر ، وهكذا تعامل معه السلف الصالح ، وعلى هذا الخُلق الحسن تربَّوْا وربَّوا غيرهم ، لكن يا تُرى كيف هي سيرتنا مع بعضنا ؟ أنردُّ الحسنة بمثلها أم بضدِّها ؟ كيف نتعامل مع من يسيء إلينا ؟ أنردُّ السيئة بمثلها ، أم بالزيادة عليها ، أم بالاستغفار لصاحبها ؟ لا بأس على أية حال ، لعلنا نسينا أو لم نكن نعرف ، وقد حصل لنا التذكُّر فحيَّ على العمل ، وعلى تغيير السلوك من فعل قبيح إلى فعل حسن ، ولنتخلَّق بأخلاق حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم – الذي علمنا حب الخير لأنفسنا ولغيرنا .

  


(1) الأدب المفرد ، 138 ، قال الشيخ الألباني : صحيح .

(2) صحيح البخاري : 1/14 رقم (13) وصحيح مسلم ، كتاب : الإيمان ، رقم (45) .

(3) أخرجه البخاري ، رقم (4324) ومسلم ، رقم (2498) .

(4) مسند أحمد بن حنبل : 5/392 ، رقم (23378) تعليق شعيب الأرناؤوط : حديث صحيح .

(5) الجامع الصغير وزيادته : 1/383 ، رقم (3827) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع ، رقم

(2064) .

(6) مسند الشاميين ، للطبراني : 2/382 ، رقم (1543) .

(7) صحيح الجامع ، رقم (3753) .

(8) سنن ابن ماجه ، رقم (235) .

(9) سنن أبي داود ، رقم (2694) .

(10) المعجم الكبير : 9/233 ، رقم (9144) .

(11) الجامع الصغير : 1/ 617 ، رقم (1021) .

(12) الجامع الصغير : 1/95 ، رقم (947) .

(13) صحيح مسلم : 2/656 ، رقم (63-951) .

(14) سنن ابن ماجه : 1/178 ، رقم (886) سنن أبي داود ، رقم (980) .

(15) صحيح البخاري : 2/942 ، رقم (2518) .

(16) المعجم الكبير : 12/372 ، رقم (13383) .

(17) العَذْق بالفتح : النخلة ، وبالكسر : العرجون بما فيه من الشمايخ ، ويجمع على عذاق .

(18) هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، تعليق الذهبي قي التلخيص : لم يحتج مسلم

بمبارك ، وأخرجه الطبراني في الكبير : 5/58 ، رقم (4577) ، وفي المستدرك : 2/188 ، رقم

(2718) وذكره الألباني مختصراً في الصحيحة : 8/152 ، رقم (3145) ، بلفظ : « يا ربيعة ! ما لك

وللصديق ؟ قلت : يا رسول الله ! كان كذا كان كذا قال لي كلمة كرهها فقال لي : قل كما قلت حتى يكون

قصاصاً ( فأبيت ) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أجل ! فلا ترد عليه ولكن قل : غفر الله لك

يا أبا بكر ! » .

(19) تفسير القرطبي : 7/306 .

(20) تفسير ابن كثير : 2/493 .

(21) صحيح البخاري : 1/457 ، رقم (1294) .

أعلى