قال - تعالى - : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ
} (
محمد : 19 ) .
آية من آيات الذكر الحكيم ، ترشد المسلم إلى
خُلق كريم ، بعد العلم بالله والرجوع إليه بالاستغفار للنفس ، إلى الاستغفار
للآخر من أفراد هذه الأمة من المؤمنين
والمؤمنات .
فالإنسان المسلم شاء أم أبى يحيا حياته ساعةً
فساعة ؛ تارةً في الطاعة وتارةً يقع في العصيان ، لذلك شرع - سبحانه - لعباده الاستغفار
، كما منح على هذا الفعل مِنَحاً لا تُعدُّ ولا تُحصى ؛ يكفي لبيانها - لمعرفة عظيم
نفع الاستغفار وأثره - استحضارُ قوله - تعالى - : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ
السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل
لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا } ( نوح : 10-12 ) .
وفعل الاستغفار يقوم به المسلم الأوَّاب تجاه
نفسه في أغلب الأحيان ، وهذامطلوب من كل إنسان ، لكن حديثي ينحصر في علاقة المسلم بأخيه
المسلم ، ومدى حب الخير له عند حاجته إليه ، أو عند تعرُّضه
لأفعال تُغْضِب وتكرهها النفس ؛ إنه الاستغفار للآخر .
خصلة دعا إليها القرآن وحثَّ عليها سيد ولد عدنان
- صلى الله عليه وسلم - ، وتمثَّلها السلف الصالح في سلوكهم ودعوا إليها في كل الأحوال
.
الأنبياء والاستغفار للآخر من خلال القرآن :
- حدثنا القرآن الكريم عن أنبياء الرحمن كيف
تمثَّلوا الاستغفار للآخر فقال - سبحانه - كما جاء على لسان نبي الله نوح عليه السلام
: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا } ( نوح : 28 ) .
- وجاء على لسان خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام
كما ذكر القرآن الكريم : {
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ } ( إبراهيم : 41 ) .
- كما جاء على لسان إخوة يوسف مع أبيهم في قوله
- تعالى - : {
قَالُوا يَاأَبَانَا
اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ
لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ } (
يوسف : 97-98 ) .
الرسول - صلى الله عليه وسلم - والاستغفار للآخر
: ولعل قدوتنا هو خير من تمثَّل هذا الفعل القويم ، ودعا إليه وحثَّ عليه ، فقال من رواية
عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - : « ارحموا تُرحموا ،واغفروا يغفر الله
لكم ، ويلٌ لأَقْمَاع القول ، ويل للمصرِّين الذين يصرُّون على ما فعلوا وهم
يعلمون » [1] .
كما استغفر حبيب الله - صلى الله عليه وسلم -
للمسلمين ، وكان يستغفر لكل من طلب منه ذلك ؛ ليجعله من أخلاق أمته وديدنهم ، وكيف
لا وهو يقول : « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » [2] .
ومن الأمثلة على ذلك :
- ما رواه أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -
قال : « لما فرغ النبي - صلى الله
عليه وسلم - من حنين ، بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس ، فلقي دُرَيْدَ بن الصِّمَّة فقُتل دريد وهزم الله
أصحابه ، قال أبو موسى : وبعثني مع أبي عامر فرُمي أبو عامر في ركبته رماه جُشَمِيٌّ بسهم فأَثْبَتَهُ في ركبته فانتهيتُ
إليه ،فقلت : يا عمِّ ! من رماك ؟ فأشار إلى أبي موسى ، فقال : ذاك قاتلي الذي رماني
، فقصدتُ له فلحقته ؛ فلما رآني ولَّى فاتَّبعته وجعلت أقول له : ألا تستحيي ؟ ألا
تثبُتُ ؟ فكفَّ ، فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته ، ثم قلت لأبي عامر : قتل الله صاحبك
، قال : فانزع هذا السهم ، فنزعته فَنَزَا منه الماء ، قال : يا ابن أخي ! أقرِئ النبي
- صلى الله عليه وسلم - السلام وقل له : استغفر لي .
واستخلفني أبو عامر على الناس ، فمكث يسيراً
ثم مات ، فرجعت فدخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته على سرير مُرْمَلٍ
وعليه فراش قد أثَّر رمالُ السرير بظهره وجنبيه فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر ، وقال
: قل له :استغفر لي ، فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه ، فقال : اللهم اغفر لعُبَيد أبي
عامر ، ورأيت بياضَ إبطيه ، ثم قال : اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من
الناس . فقلت : ولي فاستغفر ، فقال : اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبَه وأدخله يوم
القيامة مُدْخلاً كريماً » [3] .
- وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال : « أتيت النبي
- صلى الله عليه وسلم - فصليت معه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم تبعته وهو يريد
يدخل بعض حُجَرِه ، فقام وأنا خلفه كأنه يكلم أحداً ، قال : ثم قال : من هذا ؟ قلت
:حذيفة ، قال : أتدري من كان معي ؟ قلت : لا ، قال : فإن جبريل جاء يبشرني أن الحسن
والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، قال : فقال حذيفة : فاستغفر لي ولأمي قال : غفر الله
لك يا حذيفة ! ولأمك » [4] .
طلب الاستغفار من الصالحين :
لم تكتف شريعة الرحمن
بطلب الاستغفار من الإنسان للحصول على مغفرة الديّان ، بل أعطته إمكانية الحصول على
هذه المنحة بطلبها ممن يلتمس فيهم الخير والصلاح ، ومن الأمثلة المبينة لذلك ما يلي
:
- روى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي
- صلى الله عليه وسلم - قال لصحابته الكرام : « إن خير التابعين رجل يقال له : أويس
، وله والدة هو بها برّ ، لو أقسم على الله لأبرَّه وكان به بياض ، فمُرُوه فليستغفر
لكم »[5].
- كما أخرج الطبراني عن أبي ذر قال : مرَّ فتى
على عمر ، فقال عمر : نِعْمَ الفتى ! فتبعه أبو ذر فقال : يا فتى ! استغفر لي .
فقال : أستغفر لك وأنت صاحب رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ؟ ! قال : استغفر لي ، قال : ألا تخبرني ؟ قال : إنك مررت على عمر
فقال : نعم الفتى ! وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « إن الله جعل
الحق على لسان عمر وقلبه » [6] .
استغفار العالمين لعباد الله المؤمنين :
- أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن فعل الاستغفار
مبثوث في الكون ، حيث إن كل خلائق الله تستغفر للمؤمنين ، وخص من ذلك صاحب العلم ،
حيث روى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « صاحب العلم يستغفر له كل شيء
حتى الحوت في البحر » [7] .
وفي رواية أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - يقول : « إنه ليستغفر للعالم من في السماوات ومن في الأرض حتى
الحيتان في البحر » [8] .
- وتستغفر ملائكة رب العالمين كذلك للمؤمنين
فقد روى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « ما
من رجل يعود مريضاً ممسياً إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح ، وكان
له خريف في الجنة .
ومن أتاه مصبحاً خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون
له حتى يمسي وكان له خريف في الجنة » [9] .
- وأخرج الطبراني في الكبير عن عبد الله بن المُخارق
عن أبيه المُخارق بن سليم أن عبد الله كان يقول : « إذا حدثتكم بحديث أتيتكم بتصديق
ذلك من كتاب الله ، إن العبد المسلم إذا قال : الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله
والله أكبر وتبارك الله ؛ قبض عليهن ملك فجعلهن تحت جناحه ، ثم صعد بهن ؛ فلا يمر على
جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بهن وَجْهَ الرحمن - تعالى - . ثم قرأ
عبد الله : {
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (
فاطر : 10 ) [10] .
أثر استغفار المؤمنين لبعضهم :
- جعل - سبحانه - استغفار المؤمن للمؤمن من الأفعال
المحققة للشفاعة ، حيث روى ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي الأمين صلى الله عليه
وسلم أنه قال : « ما من أربعين من مؤمن يستغفرون لمؤمن إلا شفعهم الله فيه »[11] .
- وبيَّن أن أثر هذا الفعل كما يناله الأحياء
ينتقل أثره إلى الأموات ؛ حيث حث - صلى الله عليه وسلم - على الاستغفار للأموات بعد
دفنهم ، فقال – صلى الله عليه وسلم - كما روى عنه عثمان - رضي الله عنه - : « استغفروا
لأخيكم وسلوا له التثبيت ؛ فإنه الآن يُسأل » [12] .
- وفي رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه
قال : نعى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي
مات فيه ؛ فقال : « استغفروا لأخيكم » [13] .
السلف الصالح واستغفارهم للمسلمين:لقد تربَّى السلف الصالح على هذا الخُلق وصار
ديدنهم مع بعضهم ، يستغفرون للمخطئ كما يستغفرون للمصلح ، أو لمن أسدى إليهم معروفاً
.
- ومن الأمثلة على استغفارهم لمن أسدى إليهم
معروفاً : ما روي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك - رضي الله عنهما -
قال : « كنت قائد أبي حين ذهب بصره ، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان استغفر
لأبي أمامة أسعدَ ابن زرارة ودعا له ، فمكثت حيناً أسمع ذلك منه ، ثم قلت في نفسي :
والله إن ذا لعَجْزٌ إني أسمعه كلما سمع أذان الجمعة يستغفر لأبي أمامة ويصلي عليه
ولا أسأله عن ذلك لِمَ هو ؟ فخرجت به كما كنت أخرج به إلى الجمعة فلما سمع الأذان استغفر
كما كان يفعل ، فقلت له : يا أبتاه ! أرأيتك صلاتك على أسعد بن زرارة كلما سمعت النداء
بالجمعة لِمَ هو ؟ قال : أَيْ بُنَيَّ ! كان أول من صلى بنا صلاة الجمعة قبل مقدم رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة .. » [14] .
- كما يروى أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه
- لما حصل لعائشة ما حصل من أهل الإفك وأنزل الله - تعالى - في براءتها : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ } ( النور : 11 ) .
قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وكان ينفق
على أحدهم ، وهو مِسْطَح بن أثاثة ؛ لقرابته منه : واللهِ ! لا
أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعدما قال لعائشة .
فأنزل الله - تعالى - : { وَلاَ يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي
القُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا
أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ( النور : 22 ) .
فقال أبو بكر : بلى ؛ والله ! إني لأحب أن يغفر
الله لي ، فرجع إلى مسطح الذي كان يُجري عليه [15] .
- وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن أبا بكر
الصديق - رضي الله عنه - نال من عمر - رضي الله عنه - شيئاً ، ثم قال : استغفر لي يا
أخي ! فغضب عمر ، فقال له ذلك مراراً ، فغضب عمر ، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه
وسلم - وانتهوا إليه وجلسوا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يسألك أخوك
أن تستغفر له فلا تفعل ؟ ! » ، فقال : والذي بعثك بالحق نبياً ! ما من مرة يسألني إلا
وأنا أستغفر له وما من خلق الله بعدك أحد أحب إليَّ منه ، فقال أبو بكر : وأنا والذي
بعثك بالحق ما من أحد بعدك أحب إليَّ منه ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -
: « لا تؤذوني في صاحبي ؛ فإن الله - عز وجل - بعثني بالهدى ودين الحق ؛ فقلتم : كذبت
، وقال أبو بكر : صدقتَ ، ولولا أن الله - عز وجل - سمَّاه صاحباً لاتَّخذته خليلاً
، ولكن أخوة الله ، ألا فسُدُّوا كل خوخة إلا خوخة ابن أبي قحافة » [16] .
- وأخرج الحاكم في مستدركه عن ربيعة بن كعب الأسلمي
قال : « وأعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرضاً ، وأعطى أبا بكر أرضاً ؛ فاختلفنا
في عذق [17] نخلة . قال : وجاءت الدنيا ، فقال أبو بكر : هذه في حدي ، فقلت
: لا ، بل هي في حدي .
قال : فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها وندم عليها
، قال : فقال لي : يا ربيعة ! قل لي مثل ما قلت لك حتى تكون قصاصاً ، قال : فقلت :
لا ، والله ما أنا بقائل لك إلا خيراً ، قال : والله لتقولن لي كما قلت لك حتى تكون
قصاصاً وإلا استعديت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فقلت : لا ، والله
ما أنا بقائل لك إلا خيراً ، قال : فرفض أبو بكر الأرض ، وأتى النبي - صلى الله عليه
وسلم - فجعلت أتلوه ، فقال أناس من أسلم : يرحم الله أبا بكر هو الذي قال ما قال ويستعدي
عليك ؟ !
قال : فقلت : أتدرون من هذا ؟ هذا أبو بكر ،
هذا ثاني اثنين ، هذا ذو شيبة المسلمين ، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب
، فيأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيغضب لغضبه ، فيغضب الله لغضبهما فيهلك
ربيعة ، قال : فرجعوا عني وانطلقت أتلوه حتى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقصَّ
الذي كان ، قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا ربيعة ! ما لك والصديق
؟ قال : فقلت مثل ما قال كان كذا وكذا ، فقال لي : قل : مثل ما قلت لك ؛ فأبيت أن أقول
له ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أَجَل ! فلا تقل له مثل ما قال ، ولكن
قل : يغفر الله لك يا أبا بكر ! قال : فولَّى الصديق - رضي الله عنه - وهو يبكي » [18] .
وفي نصٍّ جميل من آثار سلفنا الصالح يتبين لنا
الخُلق الرفيع ، المتمثل في الاستغفار للآخر بعد وقوعهم في أعراض المستغفرين لهم ،
حيث يروي لنا عصام بن المُصطَلق قال : ( دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي - رضي الله
عنهما - فأعجبني سَمْتُه وحسن رُوائه ، فأثار مني الحسد ما يُجنّه صدري لأبيه من البُغض
، فقلت : أنت ابن أبي طالب ؟ ! قال : نعم ، فبالغت في شتمه وشتم أبيه ، فنظر
إلي نظرة عاطف رؤوف ،ثم قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم
{ خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ
عَنِ الجَاهِلِينَ } (
الأعراف : 199 ) ، فقرأ
إلى قوله : {
فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ
} (
الأعراف : 201 ) ، ثم
قال لي : خفِّض عليك ، أستغفر الله لي ولك ، إنك لو استعنتنا أعنَّاك ، ولو استَرْفَدْتَنَا
أرفدناك ، ولو استرشدتنا أرشدناك ، فتوسّم فيَّ الندم على ما فرط مني ؛ فقال : { قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ } (
يوسف : 92 ) ، أمن أهل
الشأم أنت ؟ قلت : نعم ! فقال : شِنْشِنَةٌ أعْرِفُها من أَخْزَم حيَّاك الله وبيَّاك وعافاك وآدَاك ، انبسط إلينا في حوائجك
وما يعرض لك تجدنا عند أفضل ظنك إن شاء الله ، قال عصام : فضاقت علي الأرض بما رحبت
،وودِدت أنها ساخت بي ، ثم تسلَّلت منه لِوَاذاً وما على وجه الأرض أحبُّ إليَّ منه
ومن أبيه ) [19] .
أناس لا يستغفر لهم :
إن خُلق الاستغفار للآخر
لا يصل إليه إلا من رضي عنه ربه ، ولكنه مع ذلك محصور بين المسلمين ، لا يلج بابه المنافقون
والمشركون ؛ حيث قال - سبحانه - في بيان منعه على المنافقين : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ
إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ
لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي
القَوْمَ الفَاسِقِينَ } (
التوبة : 79-80 ) .
قال ابن كثير : ( يخبر - تعالى - نبيه - صلى
الله عليه وسلم – بأن هؤلاء المنافقين ليسوا أهلاً للاستغفار ، وأنه
لو استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) [20] .
- أما منعه على المشركين فقال - سبحانه - : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ
إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ
} (
التوبة : 113-114 ) .
وأخرج البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه
أخبره : « أنه لما حضرت أبا طالب الوفاةُ جاءه رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل بن هشام و عبد الله بن أمية بن المغيرة ، قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب : يا عمِّ ! قل : لا إله إلا الله كلمة أشهد
لك بها عند الله .
فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية : يا أبا طالب
! أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه
ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى
أن يقول : لا إله إلا الله .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما
واللهِ لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك . فأنزل الله - تعالى - فيه : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ } الآية » [21] .
هذا هو الاستغفار للآخر ، وهكذا تعامل معه السلف
الصالح ، وعلى هذا الخُلق الحسن تربَّوْا وربَّوا غيرهم ، لكن يا تُرى كيف هي سيرتنا
مع بعضنا ؟ أنردُّ الحسنة بمثلها أم بضدِّها ؟ كيف نتعامل مع من يسيء إلينا ؟ أنردُّ
السيئة بمثلها ، أم بالزيادة عليها ، أم بالاستغفار لصاحبها ؟ لا بأس على أية حال ،
لعلنا نسينا أو لم نكن نعرف ، وقد حصل لنا التذكُّر فحيَّ على العمل ، وعلى تغيير السلوك
من فعل قبيح إلى فعل حسن ، ولنتخلَّق بأخلاق حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم – الذي
علمنا حب الخير لأنفسنا ولغيرنا .
(1) الأدب المفرد ، 138 ، قال الشيخ الألباني : صحيح .
(2) صحيح البخاري : 1/14 رقم (13) وصحيح مسلم ، كتاب : الإيمان ، رقم
(45) .
(3) أخرجه البخاري ، رقم (4324) ومسلم ، رقم (2498) .
(4) مسند أحمد بن حنبل : 5/392 ، رقم (23378) تعليق شعيب الأرناؤوط
: حديث صحيح .
(5) الجامع الصغير وزيادته : 1/383 ، رقم (3827) ، وصححه الألباني في
صحيح الجامع ، رقم
(2064) .
(6) مسند الشاميين ، للطبراني : 2/382 ، رقم (1543) .
(7) صحيح الجامع ، رقم (3753) .
(8) سنن ابن ماجه ، رقم (235) .
(9) سنن أبي داود ، رقم (2694) .
(10) المعجم الكبير : 9/233 ، رقم (9144) .
(11) الجامع الصغير : 1/ 617 ، رقم (1021) .
(12) الجامع الصغير : 1/95 ، رقم (947) .
(13) صحيح مسلم : 2/656 ، رقم (63-951) .
(14) سنن ابن ماجه : 1/178 ، رقم (886) سنن أبي داود ، رقم (980) .
(15) صحيح البخاري : 2/942 ، رقم (2518) .
(16) المعجم الكبير : 12/372 ، رقم (13383) .
(17) العَذْق بالفتح : النخلة ، وبالكسر : العرجون بما فيه من الشمايخ
، ويجمع على عذاق .
(18) هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، تعليق الذهبي قي التلخيص
: لم يحتج مسلم
بمبارك ، وأخرجه الطبراني في الكبير : 5/58 ، رقم (4577) ، وفي المستدرك
: 2/188 ، رقم
(2718) وذكره الألباني مختصراً في الصحيحة : 8/152 ، رقم (3145) ، بلفظ
: « يا ربيعة ! ما لك
وللصديق ؟ قلت : يا رسول الله ! كان كذا كان كذا قال لي كلمة كرهها
فقال لي : قل كما قلت حتى يكون
قصاصاً ( فأبيت ) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أجل ! فلا
ترد عليه ولكن قل : غفر الله لك
يا أبا بكر ! » .
(19) تفسير القرطبي : 7/306 .
(20) تفسير ابن كثير : 2/493 .
(21) صحيح البخاري : 1/457 ، رقم (1294) .