من
نِعَم الله - تبارك وتعالى - على عباده أن شرع لهم سبلاً لطاعته ومنهجاً للقرب
منه؛ ليكون أنيساً لهم من ضيق العيش في الدنيا وهفواته، وبلاغاً إلى مرضاة الرب
وجناته، وتثبيتاً لهم في وجه فتن الزمان ونكباته، وزيادة على ذلك كله ترك لهم بعد
فعلها حلاوة يجدونها في قلوبهم وألسنتهم وعقولهم، فإذا بالسكينة والطمأنينة
تغشاهم، والخشوع والإخبات في قلوبهم، والهمة والعزيمة تتملك جوارحهم، كأني بأحدهم
لو أراد أن يزحزح الجبال لزحزحها عن مكانها من شدة القوة التي أدخلتها عليه تلك
الطاعات والقربات.
«يقول
بعض الشيوخ: لقد كنت في حال أقول فيها: إن كان أهل الجنة في الجنة في مثل هذه
الحال إنهم لفي عيش طيب. وقال آخر: إنه ليمرُّ على القلب أوقات يرقص منها طرباًَ.
وقال الآخر: لَأَهل الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم» .
إلا
أن هذه الحلاوة وهذه اللذة التي تتركها الطاعة في قلب فاعلها تنقلب رأساً على عقب
من دائرة الحسنة المقبولة المرضيِّ عنها إلى المردودة التي تُرمَى كالخرقة البالية
في وجه صاحبها؛ ولهذا قال بعضهم: احذروا حلاوة الطاعات! وذلك لأن المقصود من
الطاعة لله - تبارك وتعالى - هو الخضوع والخشوع والانقياد والتذلل والانكسار له -
سبحانه - فإذا خلت من هذه المعاني واتصفت بأضدادها كانت سمّاً قاتلاً ووبالاً على
صاحبها.
فالعبد
المطيع وهو في غمرة طاعته لربه من خلال أدائه للأعمال الصالحة والمشروعة يرجو ثواب
الله وإعلاء كلمة الله؛ يصيبه في سيره المبارك داء العُجْب تارةً ومرض الكِبْر
والغرور تارةً أخرى، فينحدر إلى الأسفل بعد أن كان صاعداً إلى الأعلى. وبذكر
المثال يتضح مقصود المقال:
1
- ذلك المتعبِّد بركعات النوافل الظاهرية والسرية والمواظب على صــيام الأيام
الشتوية والصيفية، والمداوم على ذكر ربـه ومنــاجاته والخــلوة به والأنس إليه
والانطراح بين يديــه؛ تجـده يـفرح بهــذه الطاعة التي وفَّقــه الله إليها؛
فانشرح لها صـــدره وقــوي بها قلبه وتلذَّذ لسانه بذكر محبوبه، فينسى حينــئذ
نفسه ويغفل عن ضعفه وتقصيره ويرى كأنه قــد بلغ المنـزلة المـرموقة وضَمِنَ رضا
ربه، فإذا به يزهو بنفسه، ويحتقر مَنْ بجانبه من إخوانه وأصدقائه، وينظر إليهم في
نفسه بازدراء وتنقُّص وأنه أفضل منـهم بدرجات ومسافات؛ فهو الصائم القائم المخبت
الذاكر، أما هم فالنائمون المتخمون الذين لا يعـرفون للَّــيل قيــاماً ولا للنهار
صــياماً، يقــولــون ما لا يفعلون، ويتظاهرون بما لا يبطنون، وَيْلهـم من يوم
تكعُّ فيه الرجال وتذهـل فيـه المرضـعـات عما أرضعن من شدة الحال.
لقد
أصيب هذا المتعبِّد بداء العجب والغرور الذي صيَّره أنه بمفـرده قمـة في العـبادة
واسـتقامـة السلوك الذي حذَّر منه السـلف كثـيراً. قـال أبـو وهب المروزي: سألت
ابن المـبارك: ما الكِبْر؟ قال: أن تزدري الناس. فسألته عن العُجْب؟ قال: أن ترى
أن عـندك شيئاً ليس عند غيرك، لا أعلم في المصلِّين شيئاً شراً من العُجْب . ولهذا
يصل الأمر بهذا المتعبِّد إلى أن يـتألَّى على الله مـن شـدة عجـبه وغروره، فعَنْ
جُنْدَُبٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: وَاللهِ؛ لاَ
يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلاَنٍ. وَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي
يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ؟! فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ،
وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ .
2
- وهذا طالب العلم الذي انشغل بعلوم الكتاب والسنة وأنفق ليله ونهاره في مطالعتها
ومذاكرتها، وحصل له من ذلك خير عميم بالجلوس بين يدي العلماء، وثني الرُّكب
تحصيلاً وسؤالاً ومراجعة وتأمُّلاً في هديهم وسمتهم، فكتب الله له القبول بين
الناس، وصارت لذته وفرحه بتحصيل المسألة أعظم من فرحه بتحصيل المال والتلذذ بأطيب
ألوان الشراب والطعام:
سهري
لتنقيح العلوم أَلَذُّ لي
مِنْ
وَصْل غانية وطِيب عِناقِ
وتمايلي
طرباً لحلِّ عويصة
في
الدرس أشهى من مُدامة ساقي
إنها
حلاوة الطاعة التي غمرت قلب هذا الطالب؛ مصداقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم
- : «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة
لتضع أجنحتها رِضىً لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له مَنْ في السماء والأرض،
حتى الحيتان في الماء» ، إلا أن هذه الحلاوة سرعان ما تنقلب إلى مرارة اضمحلال هذا
السعي وذلك التحصيل؛ إذ يُعجَب الطالب بكبير عمله وجهده وبروزه من بين أقرانه؛
فيشمخ بأنفه عمن دونه، ويستنكف أن يحصِّل علماً منهم، وربما احتقر ضعف عقولهم وقلة
فهمهم، بل ويمسح بتحصيلهم وبتميُّزهم في شيء من العلوم والفنون الأرضَ؛ فهم لم
يـدركوا مـا أدركـه من أصناف شتى من العلوم، ولم يفهموا ما فهمه من أصول ومباحث
مهمة وحل إشكالات ومسائل عويصة لم يتجاسر لحلِّها كبار المشايخ والعلماء.
والمصيبة
الأعظم عندما تجد هذا الطالب الذي غرَّته حلاوة التحصيل وجودة العقل في فهم النصوص
والمسائل؛ يجرِّح عـالماً ولا يعـدِّلـه، بـل يـذهب بعيـداً بأن يسلب منه لقب
العلـم والمشـيخة، والأدهـى من ذلك كلـه أن يسـتهزئ بـه أو يحرض عليه ليمنع الناس
من الاستفادة منه، ثم يقف عند شواذِّ مسائله ودقيق أخطائه وزلاته، ثم يفتح مشوار
تحصيله، وأنه لا يملك سنداً متصلاً في القرآن ولا في شيء من الكتب المعتمدة التي
يتأتَّى نيل السند فيها، وحتى شهادة الدكتوراه التي حصل عليها فإنما هي لقب خالٍ
من المضمون يتزين به عند العامة ليصبح من النخبة المثقفة.. وهكذا. والنتيجة
المترتبة لهذه المقدمات أن هذا الطالب المعجب بنفسه يُخْرِج فئاماً من العلماء من
دائرة العلم وأنهم ليسوا على المنهج الحق بل عندهم من البدع والضلال الشيء الكثير،
ثم تصل به الحال إلى التحذير منهم ومن سماع كلامهم والتلقِّي عنهم، إنهم في نظره
يشكلون خطراً كبيراً على الأمة بل هم أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى؛ لأنهم
يقلبون النصوص عن حقيقتها ومرادها ويفسرونها على غير مراد مُنزلها سبحانه وتعالى.
إنها
آفة القراء؛ كما قال الفضيل رحمه الله. لقد اغترت نفس هذا الطالب التي عشش فيها
الفرح بحلاوة طلب العلم فأصابها العجب فكان مصيره الهلاك ولا محالة؛ إلا أن
يتغـمَّـده الله برحمة منه؛ فقد قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: الهلاك في
اثنتين: القنوط والعجب .
إنهـا
رؤيـة النـفس وإسـناد العمـل إليـها ورؤية المزيَّة لها عن غـيرها من الناس. قال -
تعالى -: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]؛ أي: فلا تثـنوا على أنفسكم بالطهارة عن
المـعاصـي بالكلـية أو بزكاء العمل وزيادة الخير، بل اشكروا الله - تعـالى - على
فضله ومغفرته؛ جل شأنه ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ثلاث مهلكات: شحٌّ مطاع، وهوى متَّبع،
وإعجاب المرء بنفسه» . وقال - صلى الله عليه وسلم - : «لو لم تذنبوا لخـشيت عليكم
ما هو أكبـر مـن الذنـوب: العُـجْـب» . قال مطرِّف بن عبد الله: (لأن أبيت نائماً
وأُصبح نادماً أحبُّ إليَّ من أن أبيتَ قائماً وأُصبح معجَباً) . وقيل لعائشة -
رضي الله عنها -: متى يكون الرجل مسيئاً؟ قالت: «إذا ظن أنه محسن» .
والمعجَب
أعمى عن آفات نفسه وعمله، والعمل إذا لم يُتَفَقَّد ضاع، وإنما يَتَفَقَّد عملَه
مَنْ غلب عليه خوف الله وخوف ذنوبه ولا يريد الثناء على نفسه وحمدها وتزكيتها،
وربما أُعجب برأيه وعقله فيستنكف عن سؤال غيره ولا يسمع نصح ناصح لنظره من سواه
بنظر الاستحقار؛ نسأل الله السلامة والعافية.
«فمن
طلب العلم للعمل كسره العلم وبكى على نفسه، ومن طلب العلم للمدارس والإفتاء والفخر
والرياء تحامق واختال، وازدرى بالناس، وأهلكه العجب، ومقتته الأنفس: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن
دَسَّاهَا} [الشمس: ٩ - 10].
«إن
الذي يكتب الله له الهدى والخير يضع في قلبه الحسـاسية والحذر والتلفت والحساب،
فلا يأمن مـكر الله، ولا يأمن تقلُّب القلب، ولا يأمن الخطأ والزلل، ولا يأمن
النقص والعجز، فهو دائم التفتيش في عمله، دائم الحساب لنفسه، دائم الحذر من
الشيطان، دائم التطلع لعون الله ونصره وتأييده، وهذا ابن القيم يقول: «فلا أنفع
للصادق من التخفف بالمسكنة والذلة والفاقة وأنه لا شيء، ولقد شاهدت من شيخ الإسلام
ابن تيمية - قدَّس الله روحه - من ذلك أمراً لم أشاهده من غيره وكان يقول: ما لي
شيء ولا مني شيء، ولا فيَّ شيء، وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت:
أنا
المكدي وابن المكدي
وهكذا
كان أبي وجدِّي
وكان
إذا أُثنيَ عليه في وجهه يقول: واللهِ! إني إلى الآن أجدِّد إسلامي كل وقت، وما
أسلمت بعدُ إسلاماً جيداً» .
3-
ويسري الاغـترار بحـلاوة الأعـمـال الصالحة في كـيان الجـماعـات والتنــظـيـمات
الإسلاميـة مـما يُحـدِث ذلك شرخاً كبيراً في التواصل بيـنها وتبادل الخبرات وسد
الثغرات واحترام كـل منـها الآخـر، بل تجـد أن هذه الجماعة التي بلغـت فـي مسيرة
العمل الإسلامي سنين طوالاً واكتسبت خلال ذلك المشوار كمّاً هائلاً من النتائج
الطيبة وهي تسعى - ولا زالت - للوصول إلى أهدافها الكبرى؛ تنسى في غمرة فرحها بما
حصلته من طاعات وقربات أنها بحاجة ماسة إلى كل العاملين في الميدان الدعوي والعلمي
والخيري والسياسي، وأن تمدَّ جسور التواصل وتقيم شبكات الاتصال مع كل العاملين
بنظرة المحب لإخوانه، القريب منهم بتواضعه، ولين جانبه، وحسن سلوكه، ولكن ليس شيء
من هذا يحصل! بل يحصل العكس؛ إذ يظن العامل في هذه الجماعة الكبيرة أن جماعته هي
الأصل وغيرها الفرع فليس للفرع إلا أن يتبع أصله ويعود إليه، وأن جماعته هي الأحق
بالوصول إلى سدَّة الحكم؛ فهي المؤهلة لذلك تاريخاً ورجالاً وقيادة وفكراً
وتنظيراً وعملاً. فهذا مثال للجماعات التي تتبنى العمل الدعوي والعلمي والخيري
والسياسي ويفترض أن تكون أنموذجاً لتحقيق الأهداف الكبرى للأمة. ولم تسيطر هذه
المفاهيم وترسخ في عقول قادة بعض الجماعات إلا لأنها تلذذت بحلاوة الطاعة وأسرفت
في التلذذ فانقلبت عليها الأمور رأساً على عقب فأحاط بها العُجْب والغرور من كل
جانب، فلم تنتبه إلى أهمية التواضع للمؤمنين والرحمة بهم وحسن الظن بهم وعدم
الترفع عليهم والتعاون معهم على البر والتقوى، والتناصر والتبادل الإيجابي، وأن كل
ذلك من أعظم مقومات النجاح لجماعتهم ابتداءً قبل غيرهم لو كانوا يعلمون.
إننا
عندما نتحدث عن الحذر من حلاوة الطاعة ليس يعني هذا أننا ننفِّر منها وكأنها شر
يجب أن نتقيه، ولكنَّ ذِكْرَنا لها إنما هو تحبيب فيها وسعي للوصول إليها وثبات
على منوالها؛ فالغفلة عن مثل هذه الدقائق المهمة توجب التنبيه إلى أهميتها وخطورة
الاستهانة بها. يقول الإمام الذهبي - رحمه الله -: فكم من رجل نطق بالحق، وأمر
بالمعروف، فيسلِّط الله عليه من يؤذيه لسوء قصده، وحبه للرئاسة الدينية، فهذا داء
خفي سار في نفوس الفقهاء، كما أنه داء سار في نفوس المنفقين من الأغنياء وأرباب
الوقوف والترب المزخرفة، وهو داء خفي يسري في نفوس الجند والأمراء والمجاهدين،
فتراهم يلتقون العدو، ويصطدم الجمعان وفي نفوس المجاهدين مخبآت وكمائن من الاختيال
وإظهار الشجاعة ليقال، والعجب فوق ذلك كله..، فأنى يُنصَرون؟ وكيف لا يُخذَلون؟
اللهم! فانصر دينك، ووفِّق عبادك .