إن من أشد الأمراض فتكاً
بالأفراد والجماعات المسلمة ، انعدام الإخلاص ، بل يمكننا أن نقول : إنه سبب رئيس
لتأخر النصر والتمكين ، وإنه السبب الرئيس كذلك لتفرق المسلمين وبعدهم عن الألفة
والمحبة ووحدة الكلمة التي هي من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية .
ذلك أن عدم الإخلاص نوع من
أنواع الشرك ، فهو إشراك غير الله مع الله في نوع من أنواع العبادة ، وقد يكون هذا
الشريك بشراً كما هو الحال في الرياء ، وقد يكون غير ذلك .
وتكمن الخطورة
الشديدة لهذا المرض في عدة أسباب منها : أن عدم الإخلاص محبط
للعمل ، فلا يجني العامل من عمله إلا الحسرة والندامة ، قال تعالى : { وقدمنا
إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراْ } [1] ،
وقال صلى الله عليه وسلم : (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ،ورب قائم
ليس له من قيامه إلا السهر والتعب) [2]
، فبذلك يخسر الإنسان الخسران المبين . كما أن
عدم الإخلاص في كثير من الأحيان مرض خفي ، بل خفي جداً : (إياكم وشرك السرائر ،
يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الرجل إليه ، فذلك شرك
السرائر) [3]
، وصاحبه قد لا يتفطن إلى أنه مصاب به ،بل إن
صاحبه يظن أنه يحسن صنعاً ، وهو من الأخسرين أعمالاً . ومن أظهر عوارض الإخلاص
وأشهرها الرياء الذي يمكن أن نُعرّفه : بأنه العمل لأجل البشر ، وهناك عارض آخر
يطرأ على الإخلاص لا يقل خطورة عن سابقه وربما يكون قسيماً له لكن قل من يتفطن له
وهو عبادة النفس بأن يعمل العامل العمل لأجل نفسه .
فالمرائي يعمل العمل لأجل أن
يقول عنه الآخرون ما يحب من الثناء وصاحبنا يعمل لأجل أن يقول هو عن نفسه ... لأجل
أن يرضي نفسه ، حتى يحقق الصفة التي يصفه الناس بها .
فهذا الإنسان يأخذ من الليل
، ويصوم الهواجر ، ويكثر من الصدقة ويحسن
معاملة بعض الناس ، ويبذل من وقته وماله الكثير في الدعوة ، وقد ترى عليه مسحة من
الزهد متزيناً بالورع لأجل من ؟ لأجل أنه فلان ابن فلان الداعية أو المربي أو
الشيخ ، لا لأجل الله وحده ، ولا لأجل أن يلقى ثواب ذلك عند الله .
قد يكون هذا غريباً لا يمكن
تخيله ، ولكنه عند التأمل واقع ، وواقع وللأسف بين صفوف بعض المتصدين للدعوة
وطائفة من المتعالمين ، ولكن كيف يمكن تشخيص هذا المرض ؟
بادىء ذي بدء نقول : إن
العلماء يعّرفون الإخلاص بعدة تعاريف منها : أن يستوي حال الإنسان في الظاهر
والباطن ، فالمخلص لله وحده يعمل العمل سواء أرآه الناس أو لم يروه ، أكان له حظ
من حظوظ الدنيا أو لم يكن له ، أكان له ميزة معينة أو لم تكن ، فليس له توجه إلا
لله ، وليس له هم إلا الهرب من النار والفوز بالجنة ، فمهما تغيرت الظروف التي
حوله فلن يزيد من عمله لأجلها وكذلك لن ينقص ، فالمخلص يعمل الطاعات سواء أكان هو
فلاناً المربي أو الشيخ ، أو لم يكن (إن كان في الساقة فهو في الساقة ، وإن كان في
الحراسة فهو في الحراسة) وهذا معيار لمن أراد الكشف عن وجود هذا المرض الخفي في
نفسه .
ولا يظن ظان أن العمل الدعوي
هو المعرض للإصابة بهذا المرض فقط بل إن كل أعمال الإنسان من دعوة وغيرها معرضة
للإصابة بهذا المرض ، لأنه يغزو القلب الذي هو منبع الأعمال وأساسها ، فمتى ما
أصيب القلب أثر ذلك على جميع أعمال الإنسان البدنية وغيرها ، حتى في عبادته الخاصة
من صلاة وصيام وذكر ، فالمصاب بهذا المرض قد يؤدي كثيراً من العبادات ، وقد خلى
قلبه من نية التعبد والتقرب إلى الله بها ، وحقيقة نيته وأصل دافعه لها أن هذه
العبادات من صفات طالب العلم أو الداعية ، فلابد من الإتيان بها لأجل أن تكتمل
صورة هذا الداعية أو طالب العلم أمام نفسه ، كمن حصل على منصب ديني ، فإنه يبدأ
بالإتيان بلوازم هذا المنصب من عبادات وغيرها ، فمن عُيّنَ قاضياً مثلاً لا بد أن
تكون هيئته هيئة طلبة العلم وسيماه سيماء العلماء ، فإن أتى ببعض السنن بناء على
ذلك فإن دافعه ربما كان لتحقيق لوازم هذا المنصب لا نية التقرب إلى الله بتلك
السنن .
قد يقول قائل إن ما تتحدث
عنه أمر لا يكاد يعرف ، بل قد لا يظهر لكل أحد ،
فعلاجه من الصعوبة بمكان ، فلا داعي للدخول في هذه التفاصيل ولنأخذ الأمر بكل
يسر وسهولة .
وجواباً على ذلك يقال :
موضوع النيات موضوع خطير جداً ، إذ هو أساس قبول الأعمال وردها ، فهو أساس الفوز
أو الخسران المبين ، أي أنه طريق الجنة أو النار ، والجميع مقرون بأن أمره شاق ،
بل شاق جداً ، وكما قال سفيان الثوري : »
ما عالجت شيئاً أشد من نيتي فإنها تتقلب علي «
، وعن يوسف بن أسباط أنه قال : »
تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد « [4] .
وقد نقل عن بعض العلماء أنه
قال : وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في
أعمالهم ، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا ، فإنه ما أتي على كثير من الناس
إلا من تضييع ذلك [5]
.
وقد تكلم الأستاذ » عبدالجليل حسن «
عن هذا المرض في لمحاته التربوية من السيرة النبوية ، وأجد من نسبة الفضل لأهله أن
أقتطف من كلامه ما يناسب الموضوع وإن طال لأنه أجاد فيه وأفاد .
يقول : » ولمحتنا التربوية التي نشتمها من هنا هي التفرقة بين عبادة الله
وحده الذي لا شريك له ، وبين عبادة أنا ، التفرقة بين الحق الذي لا مرية فيه سواء
أكان هذا الحق الذي أتى على يدي أو على يد غيري ، سواء أكنت أنا فيه أو كان غيري ،
وبين الحق الزائف الذي يكون فيه أنا وأنا فقط ، فإن كان غيري فهي الردة والنكوص
والهلاك والخسران ، إنها التفرقة بين عبادة الله وعبادة أنا ، أو بين عبادة الله
وعبادة النفس من دون الله .
إن كثيراً جداً ممن ينتسبون
إلى الدعوة الإسلامية اليوم يتعاملون مع الدعوة ورجالها بمنطق أبي عامر [6] ،
فهو لا ينشط في دعوته إلا إذا كان هو صاحب الإمارة وصاحب المنزلة ، صاحب التوجيه ،
صاحب المقام في قلوب الخلق هو القائل ، وهو المتحدث ، هو القائد ... المهم أن يكون
هو وهو فقط ، فإذا كان الأمر كذلك كان النشاط والحركة ، والدعوة والهمة العالية ،
العمل الدائب وربما يغلف كل ما سبق من عمل وحركة بشيء من التواضع ، والزهد
الزائفين فإذا اهتزت في نفس هذا النمط من الدعاة (أنا) فوجد نفسه نزل من موضع إلى
موضع ، أو سبقه من هو دونه ، أو لم يحز ما ترنو إليه نفسه ، انقلبت الأمور وهدأت
الحركة ، وانطفأت شعلة النشاط ، وبردت جذوة الأمل ، وانكفأ إلى بيته ، وعلى أحسن
الأحوال أخذ إجازة من الدعوة ، تنم عن غضب ومشاحنة ينطوي عليها الصدر ، وقد يسوء
الحال عن ذلك ، فتكون الردة والنكوص عن الطريق كله ، بحجة أن الجماعة قد انحرفت عن
خطها الصحيح ، وهو لا يرضى هذا الانحراف ، ثم يبدأ البحث كما يزعم عن طريق آخر فيه
أنا وأنا فقط « .
»
أخي الحبيب : إن لنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة ، فلابد لنا من
وقفة صادقة مع النفس لتتوجه من جديد إلى الله ، إلى الله وحده لا شريك له ، إنه
صفاء الابتداء ، فمن خانه ذلك وكان في النفس شيء فليبدأ من جديد ، بتوبة صادقة ،
ونية صادقة ، على ألا يكون في القلب والنفس إلا الله وحده لا شريك له ، إن كل ما سوى الله من غايات إنما هي
أقذار وأوحال وعفن وعطب يصيب القلوب فَتَهْلَك وتُهْلكْ ، فيبعد النصر ويطول
الطريق ، فمن كان يريد السير إلى الله عز وجل في دعوته المباركة فلا يتطلع إلى شيء
، ولا يعمل بشرط أن يكون كذا وكذا ، ولا ينظر إلى تقدم أو تأخر ولا يرسم لهدف في
النفس لا يعلمه إلا الله «
.
( »
إن السعادة والسداد والفوز في الدارين ، والتقدم والفلاح إنما هما في توجه النية
دائماً إلى الله وحده لا شريك له ، دونما التفات إلى ما سواه ، ولو كنت ذَنَباً في
الحق وأنت على ذلك خير لك من كونك أميراً مطاعاً ورأساً مرموقاً وأنت على غير ذلك { كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون } [7] « ) [8]
.
إذاً فمن أنجع أساليب علاج
هذا المرض والكشف عن الإصابة به المحاسبة والمراقبة الدائمتين ، ليسأل الإنسان
نفسه دائماً ، ويفتش عن حقيقة دافعه للعمل أي عمل ولا يتسامح أو يتساهل مع نفسه ،
وبخاصة في أمر النية والباعث على العمل ، إذ مدار الثواب والعقاب على صلاح النية
وفسادها وليعلم أن معالجة أمر النية من أصعب وأدق الأمور كما تقدم .
لكن هنا ينبغي لنا أن ننبه
على أمر قد يقع خلط بينه وبين ما نحن بصدده فقد يفعل الإنسان أموراً لا يفعلها إلا
لأجل أن الناس يقتدون به ، ولو لم يكن في موضع القدوة لم يفعلها ، وهذا أكثر ما يكون
في باب التروك ، وقد تحدث العلماء عن هذا فرغبوا لمن يقتدى به أن يترك بعض الأمور
خشية أن يعتقد الناس فيها ما ليس بصحيح .
وما نحن فيه ليس من هذا
الباب وإن كان الفرق بينهما دقيقاً ، فمن يقتدى به ، إذا فعل أو ترك أمراً كي
يقتدي به الناس فعلاً أو تركاً إنما يفعل ذلك حتى لا يكون هو سبباً لوقوع الناس في
الحرام ، أو سبباً لترك الناس المستحب أو الواجب فيعاقبه الله على ذلك كما يعاقب
فاعل المحرم ، إذ الوسائل لها أحكام الغايات .
فالغاية النهائية لمثل هذا
هي الدلالة على الخير لأنه سبب لمرضاة الله ونيل ثوابه ، والتحذير من الشر ، لأنه
من أسباب سخطه ونيل عقابه .
لكن صاحبنا الذي سبق الكلام
عنه هنا لم ينظر إلى الآخرة ، ولا إلى الثواب أو العقاب ، وإنما غايته النهائية
تحقيق منزلته عند الناس .
وكذلك نيته هنا إلى الفرق
بين الشعور بالمسؤولية إذا ألقيت على الإنسان ومن ثم النهوض بأعبائها ، وبين هذا
الذي نتحدث عنه ، فعمر بن عبدالعزيز كان غاية في التنعم والترفه ، حتى إذا ولي أمر
المسلمين أبدل غاية ما فيه من تنعم وترفه بغاية الزهد والتقشف ، فالفرق كبير ، فإن
الذي دفع عمر بن عبدالعزيز لذلك القيام بالمسؤولية التي امتحنه الله بها ، ذلك أن
القيام بها كما أراد الله يستلزم انشغالاً بمصالح المسلمين عن مصالح نفسه ، وورعاً
في المال الذي وكله الله عليه ، وعبادة يستعين بها على القيام بأعباء هذا الواجب
الثقيل ، فمقصده النهائي طلب مرضاة الله بالنهوض بما أوجبه الله عليه ، والقيام به
على أتم وجه .
فإذا حُمّل أحد من الناس
أعباء أو تكاليف منصب ما ، فالواجب أن يبذل غاية ما في وسعه للقيام بهذا الواجب
الذي تحتم عليه ، فما من شك أن ما أوجبه الله عز وجل على من يتحمل أمراً من أمور
المسلمين ، ليس كما أوجبه على آحاد المسلمين ،وعليه فلابد أن يكون عمل ونشاط وحركة
الأول أكثر من عمل ونشاط وحركة الثاني بكثير ، إذ لا يتم له القيام بذلك الواجب
إلا بهذا الكم من العمل والحركة ،فعلى كليهما أن يقوم بواجباته طلباً لمرضاة الله
، وتخلصاً من إثم الإخلال بحقوق الله وحقوق الناس .
إخواني الدعاة وطلبة العلم :
إن أخشى ما أخشاه على أنفسنا أن نأتي يوم القيامة ، وقد أخذ كل مكانه من الجنة بمن
فيهم من كنا نظن أنه أقل رتبة منا ، ثم لا نجد مكانا لنا لأننا لم نمهد لهذا
المكان بعملنا ، ولم يكن الهرب من النار وطلب مرضاة الله حادينا إلى العمل ، بل
كانت دوافعنا إما حزبية من باب تكثير الأتباع ،أو من أجل التصدر ، أو غير ذلك ،
فالله الله في أنفسنا وفي قلوبنا ولندعُ الله أن يجعل همنا في أعمالنا الصالحة
التقرب إليه إنه سميع مجيب .
(1) سورة الفرقان : 33 .
(2) رواه ابن
ماجة ، وهو صحيح ، صحيح الجامع 3488 .
(3) رواه ابن
خزيمة في صحيحه .
(4) جامع
العلوم والحكم ، ص 1009 ، طبع مصر .
(5) عن مقاصد
المكلفين للدكتور عمر الأشقر ، ص 5 .
(6) أبو عامر
هو عبد بن صيفي بن النعمان ، وهو والد أبي حنظلة غسيل الملائكة ، وكان أبو عامر
ترهب في الجاهلية وكان يقال له أبو عامر الراهب لكثرة عبادته ، وكان سبب ترهبه أنه
سمع بأن زمانه زمان نبي فأراد أن يهيء نفسه للرسالة ، لمحات تربوية من السيرة
النبوية ، ص 8 ؛ وانظر السيرة النبوية لابن هشام ، 584586 ، طبع مصر .
(7) سورة
القصص : 88 .
(8) لمحات
تربوية من السيرة النبوية ، ص 810 .