• - الموافق2024/11/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
من عوارض الإخلاص : عبادة الذات

من عوارض الإخلاص : عبادة الذات

إن من أشد الأمراض فتكاً بالأفراد والجماعات المسلمة ، انعدام الإخلاص ، بل يمكننا أن نقول : إنه سبب رئيس لتأخر النصر والتمكين ، وإنه السبب الرئيس كذلك لتفرق المسلمين وبعدهم عن الألفة والمحبة ووحدة الكلمة التي هي من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية .

ذلك أن عدم الإخلاص نوع من أنواع الشرك ، فهو إشراك غير الله مع الله في نوع من أنواع العبادة ، وقد يكون هذا الشريك بشراً كما هو الحال في الرياء ، وقد يكون غير ذلك .

وتكمن الخطورة الشديدة لهذا المرض في عدة أسباب منها : أن عدم الإخلاص محبط للعمل ، فلا يجني العامل من عمله إلا الحسرة والندامة ، قال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراْ } [1] ، وقال صلى الله عليه وسلم : (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ،ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب) [2] ، فبذلك يخسر الإنسان الخسران المبين . كما أن عدم الإخلاص في كثير من الأحيان مرض خفي ، بل خفي جداً : (إياكم وشرك السرائر ، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الرجل إليه ، فذلك شرك السرائر) [3] ، وصاحبه قد لا يتفطن إلى أنه مصاب به ،بل إن صاحبه يظن أنه يحسن صنعاً ، وهو من الأخسرين أعمالاً . ومن أظهر عوارض الإخلاص وأشهرها الرياء الذي يمكن أن نُعرّفه : بأنه العمل لأجل البشر ، وهناك عارض آخر يطرأ على الإخلاص لا يقل خطورة عن سابقه وربما يكون قسيماً له لكن قل من يتفطن له وهو عبادة النفس بأن يعمل العامل العمل لأجل نفسه .

فالمرائي يعمل العمل لأجل أن يقول عنه الآخرون ما يحب من الثناء وصاحبنا يعمل لأجل أن يقول هو عن نفسه ... لأجل أن يرضي نفسه ، حتى يحقق الصفة التي يصفه الناس بها .

فهذا الإنسان يأخذ من الليل ، ويصوم الهواجر ، ويكثر من الصدقة ويحسن معاملة بعض الناس ، ويبذل من وقته وماله الكثير في الدعوة ، وقد ترى عليه مسحة من الزهد متزيناً بالورع لأجل من ؟ لأجل أنه فلان ابن فلان الداعية أو المربي أو الشيخ ، لا لأجل الله وحده ، ولا لأجل أن يلقى ثواب ذلك عند الله .

قد يكون هذا غريباً لا يمكن تخيله ، ولكنه عند التأمل واقع ، وواقع وللأسف بين صفوف بعض المتصدين للدعوة وطائفة من المتعالمين ، ولكن كيف يمكن تشخيص هذا المرض ؟

بادىء ذي بدء نقول : إن العلماء يعّرفون الإخلاص بعدة تعاريف منها : أن يستوي حال الإنسان في الظاهر والباطن ، فالمخلص لله وحده يعمل العمل سواء أرآه الناس أو لم يروه ، أكان له حظ من حظوظ الدنيا أو لم يكن له ، أكان له ميزة معينة أو لم تكن ، فليس له توجه إلا لله ، وليس له هم إلا الهرب من النار والفوز بالجنة ، فمهما تغيرت الظروف التي حوله فلن يزيد من عمله لأجلها وكذلك لن ينقص ، فالمخلص يعمل الطاعات سواء أكان هو فلاناً المربي أو الشيخ ، أو لم يكن (إن كان في الساقة فهو في الساقة ، وإن كان في الحراسة فهو في الحراسة) وهذا معيار لمن أراد الكشف عن وجود هذا المرض الخفي في نفسه .

ولا يظن ظان أن العمل الدعوي هو المعرض للإصابة بهذا المرض فقط بل إن كل أعمال الإنسان من دعوة وغيرها معرضة للإصابة بهذا المرض ، لأنه يغزو القلب الذي هو منبع الأعمال وأساسها ، فمتى ما أصيب القلب أثر ذلك على جميع أعمال الإنسان البدنية وغيرها ، حتى في عبادته الخاصة من صلاة وصيام وذكر ، فالمصاب بهذا المرض قد يؤدي كثيراً من العبادات ، وقد خلى قلبه من نية التعبد والتقرب إلى الله بها ، وحقيقة نيته وأصل دافعه لها أن هذه العبادات من صفات طالب العلم أو الداعية ، فلابد من الإتيان بها لأجل أن تكتمل صورة هذا الداعية أو طالب العلم أمام نفسه ، كمن حصل على منصب ديني ، فإنه يبدأ بالإتيان بلوازم هذا المنصب من عبادات وغيرها ، فمن عُيّنَ قاضياً مثلاً لا بد أن تكون هيئته هيئة طلبة العلم وسيماه سيماء العلماء ، فإن أتى ببعض السنن بناء على ذلك فإن دافعه ربما كان لتحقيق لوازم هذا المنصب لا نية التقرب إلى الله بتلك السنن .

قد يقول قائل إن ما تتحدث عنه أمر لا يكاد يعرف ، بل قد لا يظهر لكل أحد ،   فعلاجه من الصعوبة بمكان ، فلا داعي للدخول في هذه التفاصيل ولنأخذ الأمر بكل يسر وسهولة .

وجواباً على ذلك يقال : موضوع النيات موضوع خطير جداً ، إذ هو أساس قبول الأعمال وردها ، فهو أساس الفوز أو الخسران المبين ، أي أنه طريق الجنة أو النار ، والجميع مقرون بأن أمره شاق ، بل شاق جداً ، وكما قال سفيان الثوري : » ما عالجت شيئاً أشد من نيتي فإنها تتقلب علي « ، وعن يوسف بن أسباط أنه قال : » تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد « [4] .

وقد نقل عن بعض العلماء أنه قال : وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم ، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا ، فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك [5] .

وقد تكلم الأستاذ » عبدالجليل حسن « عن هذا المرض في لمحاته التربوية من السيرة النبوية ، وأجد من نسبة الفضل لأهله أن أقتطف من كلامه ما يناسب الموضوع وإن طال لأنه أجاد فيه وأفاد .

يقول : » ولمحتنا التربوية التي نشتمها من هنا هي التفرقة بين عبادة الله وحده الذي لا شريك له ، وبين عبادة أنا ، التفرقة بين الحق الذي لا مرية فيه سواء أكان هذا الحق الذي أتى على يدي أو على يد غيري ، سواء أكنت أنا فيه أو كان غيري ، وبين الحق الزائف الذي يكون فيه أنا وأنا فقط ، فإن كان غيري فهي الردة والنكوص والهلاك والخسران ، إنها التفرقة بين عبادة الله وعبادة أنا ، أو بين عبادة الله وعبادة النفس من دون الله .

إن كثيراً جداً ممن ينتسبون إلى الدعوة الإسلامية اليوم يتعاملون مع الدعوة ورجالها بمنطق أبي عامر [6] ، فهو لا ينشط في دعوته إلا إذا كان هو صاحب الإمارة وصاحب المنزلة ، صاحب التوجيه ، صاحب المقام في قلوب الخلق هو القائل ، وهو المتحدث ، هو القائد ... المهم أن يكون هو وهو فقط ، فإذا كان الأمر كذلك كان النشاط والحركة ، والدعوة والهمة العالية ، العمل الدائب وربما يغلف كل ما سبق من عمل وحركة بشيء من التواضع ، والزهد الزائفين فإذا اهتزت في نفس هذا النمط من الدعاة (أنا) فوجد نفسه نزل من موضع إلى موضع ، أو سبقه من هو دونه ، أو لم يحز ما ترنو إليه نفسه ، انقلبت الأمور وهدأت الحركة ، وانطفأت شعلة النشاط ، وبردت جذوة الأمل ، وانكفأ إلى بيته ، وعلى أحسن الأحوال أخذ إجازة من الدعوة ، تنم عن غضب ومشاحنة ينطوي عليها الصدر ، وقد يسوء الحال عن ذلك ، فتكون الردة والنكوص عن الطريق كله ، بحجة أن الجماعة قد انحرفت عن خطها الصحيح ، وهو لا يرضى هذا الانحراف ، ثم يبدأ البحث كما يزعم عن طريق آخر فيه أنا وأنا فقط « .

» أخي الحبيب : إن لنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة ، فلابد لنا من وقفة صادقة مع النفس لتتوجه من جديد إلى الله ، إلى الله وحده لا شريك له ، إنه صفاء الابتداء ، فمن خانه ذلك وكان في النفس شيء فليبدأ من جديد ، بتوبة صادقة ، ونية صادقة ، على ألا يكون في القلب والنفس إلا الله وحده لا   شريك له ، إن كل ما سوى الله من غايات إنما هي أقذار وأوحال وعفن وعطب يصيب القلوب فَتَهْلَك وتُهْلكْ ، فيبعد النصر ويطول الطريق ، فمن كان يريد السير إلى الله عز وجل في دعوته المباركة فلا يتطلع إلى شيء ، ولا يعمل بشرط أن يكون كذا وكذا ، ولا ينظر إلى تقدم أو تأخر ولا يرسم لهدف في النفس لا يعلمه إلا الله « .

( » إن السعادة والسداد والفوز في الدارين ، والتقدم والفلاح إنما هما في توجه النية دائماً إلى الله وحده لا شريك له ، دونما التفات إلى ما سواه ، ولو كنت ذَنَباً في الحق وأنت على ذلك خير لك من كونك أميراً مطاعاً ورأساً مرموقاً وأنت  على غير ذلك { كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون } [7] « ) [8] .

إذاً فمن أنجع أساليب علاج هذا المرض والكشف عن الإصابة به المحاسبة والمراقبة الدائمتين ، ليسأل الإنسان نفسه دائماً ، ويفتش عن حقيقة دافعه للعمل أي عمل ولا يتسامح أو يتساهل مع نفسه ، وبخاصة في أمر النية والباعث على العمل ، إذ مدار الثواب والعقاب على صلاح النية وفسادها وليعلم أن معالجة أمر النية من أصعب وأدق الأمور كما تقدم .

لكن هنا ينبغي لنا أن ننبه على أمر قد يقع خلط بينه وبين ما نحن بصدده فقد يفعل الإنسان أموراً لا يفعلها إلا لأجل أن الناس يقتدون به ، ولو لم يكن في موضع القدوة لم يفعلها ، وهذا أكثر ما يكون في باب التروك ، وقد تحدث العلماء عن هذا فرغبوا لمن يقتدى به أن يترك بعض الأمور خشية أن يعتقد الناس فيها ما ليس بصحيح .

وما نحن فيه ليس من هذا الباب وإن كان الفرق بينهما دقيقاً ، فمن يقتدى به ، إذا فعل أو ترك أمراً كي يقتدي به الناس فعلاً أو تركاً إنما يفعل ذلك حتى لا يكون هو سبباً لوقوع الناس في الحرام ، أو سبباً لترك الناس المستحب أو الواجب فيعاقبه الله على ذلك كما يعاقب فاعل المحرم ، إذ الوسائل لها أحكام الغايات .

فالغاية النهائية لمثل هذا هي الدلالة على الخير لأنه سبب لمرضاة الله ونيل ثوابه ، والتحذير من الشر ، لأنه من أسباب سخطه ونيل عقابه .

لكن صاحبنا الذي سبق الكلام عنه هنا لم ينظر إلى الآخرة ، ولا إلى الثواب أو العقاب ، وإنما غايته النهائية تحقيق منزلته عند الناس .

وكذلك نيته هنا إلى الفرق بين الشعور بالمسؤولية إذا ألقيت على الإنسان ومن ثم النهوض بأعبائها ، وبين هذا الذي نتحدث عنه ، فعمر بن عبدالعزيز كان غاية في التنعم والترفه ، حتى إذا ولي أمر المسلمين أبدل غاية ما فيه من تنعم وترفه بغاية الزهد والتقشف ، فالفرق كبير ، فإن الذي دفع عمر بن عبدالعزيز لذلك القيام بالمسؤولية التي امتحنه الله بها ، ذلك أن القيام بها كما أراد الله يستلزم انشغالاً بمصالح المسلمين عن مصالح نفسه ، وورعاً في المال الذي وكله الله عليه ، وعبادة يستعين بها على القيام بأعباء هذا الواجب الثقيل ، فمقصده النهائي طلب مرضاة الله بالنهوض بما أوجبه الله عليه ، والقيام به على أتم وجه .

فإذا حُمّل أحد من الناس أعباء أو تكاليف منصب ما ، فالواجب أن يبذل غاية ما في وسعه للقيام بهذا الواجب الذي تحتم عليه ، فما من شك أن ما أوجبه الله عز وجل على من يتحمل أمراً من أمور المسلمين ، ليس كما أوجبه على آحاد المسلمين ،وعليه فلابد أن يكون عمل ونشاط وحركة الأول أكثر من عمل ونشاط وحركة الثاني بكثير ، إذ لا يتم له القيام بذلك الواجب إلا بهذا الكم من العمل والحركة ،فعلى كليهما أن يقوم بواجباته طلباً لمرضاة الله ، وتخلصاً من إثم الإخلال بحقوق الله وحقوق الناس .

إخواني الدعاة وطلبة العلم : إن أخشى ما أخشاه على أنفسنا أن نأتي يوم القيامة ، وقد أخذ كل مكانه من الجنة بمن فيهم من كنا نظن أنه أقل رتبة منا ، ثم لا نجد مكانا لنا لأننا لم نمهد لهذا المكان بعملنا ، ولم يكن الهرب من النار وطلب مرضاة الله حادينا إلى العمل ، بل كانت دوافعنا إما حزبية من باب تكثير الأتباع ،أو من أجل التصدر ، أو غير ذلك ، فالله الله في أنفسنا وفي قلوبنا ولندعُ الله أن يجعل همنا في أعمالنا الصالحة التقرب إليه إنه سميع مجيب .

 


 (1) سورة الفرقان : 33 .

(2) رواه ابن ماجة ، وهو صحيح ، صحيح الجامع 3488 .

(3) رواه ابن خزيمة في صحيحه .

(4) جامع العلوم والحكم ، ص 1009 ، طبع مصر .

(5) عن مقاصد المكلفين للدكتور عمر الأشقر ، ص 5 .

(6) أبو عامر هو عبد بن صيفي بن النعمان ، وهو والد أبي حنظلة غسيل الملائكة ، وكان أبو عامر ترهب في الجاهلية وكان يقال له أبو عامر الراهب لكثرة عبادته ، وكان سبب ترهبه أنه سمع بأن زمانه زمان نبي فأراد أن يهيء نفسه للرسالة ، لمحات تربوية من السيرة النبوية ، ص 8 ؛ وانظر السيرة النبوية لابن هشام ، 584586 ، طبع مصر .

(7) سورة القصص : 88 .

(8) لمحات تربوية من السيرة النبوية ، ص 810 .

 

أعلى