أمريكا العنصرية وكورونا
"من الصعب أن تعالج عدم المساواة في توفير الرعاية الصحية لغير البيض بعد أن ظلت قائمة لعقود وربما لقرون"
هذا تصريح قاله حاكم ولاية إلينوى، يعترف في عبارات قليلة كيف أظهر تفشي مرض كورونا أزمة العنصرية الأمريكية.
لقد كنا نظن أن العنصرية مجرد نقطة سوداء في التاريخ الأمريكي، لم تلبث أن انقشعت وحل محلها ما يعرف باسم القيم الأمريكية، والتي طالما ملأت أسماع الدنيا بها من المواطنة وحقوق الانسان والحرية والعدالة بصرف النظر عن اللون او الجنس أو العقيدة، وكم تمادت وسائل الاعلام الأمريكية في اللعب على وتيرة أن أمريكا المعاصرة تكاد تخلو من تلك الخاصية البغيضة، التي تتميز بها كثير من المجتمعات مهما علا تقدمها العلمي والتكنولوجي ومستوى الرفاهية في حياة الناس.
ولكن جاء تفشي وباء كورونا والموجة الإعلامية المصاحبة له، لتثبت أن العنصرية لازالت شجرة ضاربة بجذورها ومتغلغلة في تربة المجتمع الأمريكي.
ولكن كيف ذلك؟
دعونا نتتبع بدايات العنصرية في أمريكا...
تاريخ العنصرية في أمريكا
كان عام 1619 هو أول تاريخ موثق للعبودية في أمريكا، حيث وصلت سفينة إلى مستوطنة إنجليزية فيما يعرف الآن بولاية فرجينيا الأمريكية، تحمل نحو 20 من الأفارقة المختطفين وهذا وكان قراصنة إنجليز قد أسروهم من سفينة برتغالية تحمل أفارقة مختطفين بغرض استعبادهم قبالة سواحل المكسيك، وكانت السفينة البرتغالية تحمل نحو 350 أفريقيا اختطفوا مما يعرف الآن بأنغولا وقد مات الكثير منهم خلال الرحلة بسبب الظروف السيئة المحيطة بها، وقد قام القراصنة ببيع الأفارقة الذين استولوا عليهم لسكان المستعمرات في فرجينيا الذين كانوا بحاجة لعمال.
بعدها أصبحت أمريكا مكانًا لعمل العبيد في القرن التاسع عشر، ثم تصاعدت الدعوات لتحرير هؤلاء العبيد، فخاضت الولايات المتحدة حربا أهلية دامية وبالتحديد في الفترة من عام 1861 إلى 1865 حيث راح ضحيتها مئات الآلاف، إلى جانب ملايين المصابين عدا عن الخراب والدمار الذي تسببت به المعارك والنزاعات، وبعدها تم تعديل الدستور الأمريكي ليتم الغاء العبودية بشكل رسمي، ولكن المحكمة العليا الأمريكية أرست مبدأ هاما ينص على مبدأ «منفصلون ولكن متساوون»، فهي قالت إن الفصل العنصري لا يتناقض مع الدستور طالما أن المنفصلين متساوون، كل في عالمه، وعقب هذا بدأ فصل جديد في التاريخ الأمريكي يتعلق بالمعاملة العنصرية للملونين في أمريكا.
نعم هناك إلغاء للرق في القانون والدستور، ولكن هناك أيضا فصل عنصري بالقانون بين البيض والملونين لم تصاحبه المساواة على الإطلاق، فمدارس السود لم تكن بأي حال مساوية لمدارس البيض من حيث مواردها وإمكاناتها المادية والتعليمية، والرعاية الصحية والسكن وكل مرافق السود وغيرها، لم تكن متساوية مع تلك الخاصة بالبيض.
وبعد نصف قرن على خطابه التاريخي، الذي ألقاه قائد حركة الكفاح ضد العنصرية في أمريكا مارتن لوثر كينج، والذي جعل عنوانه الشهير عندي حلم (I have a Dream) ما زالت الظروف المعيشية الصعبة للسود فى أمريكا قائمة.
ففي دراسة حديثة أجريت عام 2014، تبين فيها أن السود مهمشون في جميع مجالات الحياة: فنسبة البطالة بينهم زادت خلال عقود إلى ضعف نسبتها بين البيض، كما أن مدخولهم المالي أقل بنسبة الثلث من متوسط دخل الفرد في الولايات المتحدة، ونسبة السود الفقراء أكثر بثلاث مرات من البيض، كما أن الاعتقالات والعقوبات في أوساطهم أكثر منها لدى البيض.
وفي دراسة أخرى تمت عام 2018، ونشرتها صحيفة الجارديان البريطانية توضح أن السود في الولايات المتحدة يتعرضون للتمييز رغم خلفياتهم الاجتماعية العالية المستوى، وكشفت الدراسة عن أن الأولاد السود -حتى الذين نشؤوا وترعرعوا في أسر عالية الدخل والمستوى- يعانون جراء عدم المساواة في الراتب عندما يكبرون، وذلك بالمقارنة مع البيض الذين يكبرون في بيئة مماثلة، بل أن السود يتقاضون رواتب وأجورا أقل، موضحة أن العرق -وليس الطبقة الاجتماعية- هو العامل المؤثر في هذا السياق.
ولكن التمييز في أمريكا لم يعد مقتصرا في العقود الأخيرة على الملونيين، بل تعداه إلى المسلمين الذي يعيشون في أمريكا:
ففي أحدث دراسة نشرت عام 2019، قال ما يزيد عن ثمانية من كل 10 أمريكيين إنهم يعتقدون أن المسلمين يواجهون على الأقل بعض التمييز في المجتمع الأمريكي، متجاوزين الفئات الكبرى الأخرى، حسب استطلاع للرأي أجراه مركز Pew الأمريكي للأبحاث، وحسب شبكة CNN الأمريكية، فإن حوالي 82% من المشاركين، قالوا إن المسلمين يواجهون تمييزاً، مقارنة بقولهم الأمر نفسه عن مجموعات أخرى مثل الهسبان أو المثليين والمثليّات، وقالت نسبة أقل قليلاً بلغت 80% إنهم يعتقدون أن أصحاب البشرة السمراء يواجهون على الأقل بعض التمييز.
ولكي نعرف مدى تغلغل العنصرية داخل النفسية الأمريكية، فقد نشرت الصحف الأمريكية منذ أكثر من عام تعرض فتاة أميركية في العشرينات من عمرها تدعى يتني أليس، لحادث تمييز عنصري على يد زميلتها البيضاء في مدرستها بمدينة فيلادلفيا الواقعة في الساحل الشرقي للولايات المتحدة، عندما نعتتها بـ"العبدة".
حتى قانون أوباما للرعاية الصحية، والذي كان يخدم فقراء أمريكا وأغلبهم بالطبع من السود، فإن ولايات الجنوب المحافظة، التي يتمركز فيها أعداد معتبرة من السود، لم تشترك أصلا في ذلك المشروع لأن حكومات ولاياتها من الجمهوريين كانت ترفض القانون بالمطلق، وأطلقوا عليه تعبير (أوباما كير) سخرية منه، بل سعوا مرات عديدة لإلغائه أصلا عبر الكونجرس، في أثناء ولاية أوباما وبعد انتهائها.
وجاءت كورونا
فقد كشف الوباء وأماط اللثام عن تلك العنصرية بشكل فاضح، وأثبتت البيانات الحكومية أن السود هم الأكثر إصابة ووفاة بفيروس كورونا بما لا يقارن بالبيض، بل بالمقارنة بالأقليات الأخرى، فقد تبين أن مدينة ديترويت، مثلا، التى يشكل السود 80% من سكانها هي أكثر المدن المضارة من الفيروس، بين كل مدن ولاية متشجان، وعدد الوفيات بها يمثل 40% من الوفيات بالولايات المتحدة.
ويصدق الشيء نفسه على مدن أخرى ذات أغلبية سوداء مثل مدينتي شيكاغو بولاية إلينوى، ونيو أوليانز بولاية لويزيانا، ففي شيكاغو، مثلت الوفيات بين السود 100% من كل الوفيات بالمدينة، وفى ولاية لويزيانا، التي يمثل فيها السود 32% من السكان، فإنهم يمثلون 70% من الوفيات بفيروس كورونا، أما فى نيويورك، بؤرة تفشى المرض، أعطيت الأولوية فى توفير اختبار المرض للذين سافروا للخارج، الأمر الذى كان يعنى ضمنيا توفيره لمناطق البيض ذوى الدخول المرتفعة، القادرين على السفر للخارج، وحرمان المناطق ذات الغالبية السوداء مثل بروكلين من الخضوع لذلك الاختبار.
وبحسب صحيفة واشنطن بوست، فإن الفجوة العرقية تقوم بدور كبير فيما يتعلق بإجراء فحوص لاكتشاف الفيروس ومعالجته، إضافة إلى توزيع الدواء ونقص المعدات والطواقم الطبية في هذه المجتمعات وكل ذلك أدى إلى تداعيات كارثية للمرض.
الصحيفة أشارت إلى أن اللامساواة والتمييز يجعلان تأثير أزمة كورونا متفاوتة بهذا الشكل، فالأمريكيون السود يعانون أصلاً من مشكلات صحية خطيرة، أقلها مرض السكري والربو وذلك بسبب فقرهم ومعاناتهم في الحصول على فرص عمل، مؤكدة أن هذه الحقيقة ليست عارضا طارئا، بل هي نتيجة لظروف اقتصادية وبيئية مفروضة على الأقليات، بسبب تاريخ الولايات المتحدة المليء بالعنصرية بحسب الصحيفة.
والجدير ذكره أن الإحصاءات الرسمية لعدد الوفيات والإصابات بالفيروس داخل مجتمعات الأمريكيين من أصول أفريقية ليست دقيقة، ما يعني أن الأعداد والنسب قد تكون أكبر بكثير، وهذا ما دفع عدداً من أعضاء الكونغرس إلى مطالبة وزارة الصحة الأمريكية بتقصي تداعيات الفيروس ضمن هذه المجتمعات الفقيرة.
نعم قد تكون أمريكا دولة تتربع على عرش النظام الدولي، كأكبر قوة عالمية ولكنها تفتقر إلى العدل والمساواة، ويشيع فيها الظلم والتمييز الذي هو المسمار الذي سيقوض دعائم هذه الإمبراطورية.