مستقبل الوجود الروسي في سوريا
مع اقتراب الوضع في سوريا إلى الحسم ضد الثورة السورية، بعد أن تخلى عنها الجميع تقريبا، وتواطأت المصالح الإقليمية والدولية على ضرورة بسط نظام بشار الأسد على كامل التراب السوري، أي أن يعود الشعب السوري للعبودية مرة أخرى، في ظل نظام قمعي لا يتورع أن يقتل مئات الآلاف شعبه بالبراميل المتفجرة والغازات السامة، ويهجر الملايين في سبيل بقاء نظام طائفي، ومع كل هذه الأمور يتحدث الجميع عن الدور الروسي في سوريا، وآفاقه المستقبلية بعد أن تنتهي مهمته المعلنة.
ولاستشراف التوجه الروسي في المسألة السورية، يجب علينا تحليل أهداف التدخل العسكري الروسي، وما حققه من نتائج سواء كانت خسائر أو أرباح ومن ثم جدوى بقائه أو خروجه.
الأهداف الروسية في سوريا:
بدأ التدخل الروسي في سوريا لمساندة نظام الأسد في 30 سبتمبر 2015، عبر قوة مكونة من 4000 فرد وحوالي 65 طائرة مقاتلة مختلفة الأنواع و16 طائرة هليكوبتر هجومية وعدة طائرات أخرى مساندة، وعبر التمركز في قاعدتي طرطوس البحرية وحميميم الجوية في اللاذقية، كان هذا التدخل منعطفا حاسما في الثورة السورية، فقبله كانت قوى الثورة على وشك هزيمة قوات الأسد وحلفاءه الإيرانيين.
دائما كان الهدف المعلن من جانب المسئولين الروس منذ بدء تدخلهم العسكري المباشر في سوريا، هو الحيلولة دون سقوط الرئيس بشار الأسد المحاصر من قبل شعبه.
ولكن ما هي مصلحة الروس في بقاء الأسد؟
شرح وفد البرلمانيين الروس أثناء زيارته لدمشق عام 2015 في بداية التدخل الروسي العسكري هدف هذا التدخل، فقال المتحدث باسمهم بالحرف: إن الزيارة التي يقومون بها إلى سورية تشكل دلالة واضحة على الرؤية الروسية تجاه الروابط الاستراتيجية التي تربط روسيا وسورية في علاقات غير قابلة للانفصام، مشدداً على أن الحفاظ على الأمن القومي الروسي يبدأ من دمشق.
وقد ظهر هذا الهدف واضحا عندما سمح حافظ الأسد الأب في منتصف السبعينات، أي ما يقرب من خمسة وأربعين عام للروس بإقامة قاعدة بحرية لهم في ميناء طرسوس السوري على البحر المتوسط، لذلك إذا انتصرت الثورة وانهزم نظام الأسد فإن القاعدة الروسية ستكون معرضة للإزالة من جانب النظام السوري الجديد المنبثق عن الشعب السوري، كما أن توسيع دور القاعدة الروسية هو هدف لبوتين، فقد كانت روسيا قبل التدخل الأخير تحظى بمجرد حقوق إرساء السفن داخل ميناء طرطوس السوري المطل على البحر المتوسط، ولكن بعد تدخلها الأخير تحول إلى قاعدة جوية - بحرية دائمة.
ولكن يجب توضيح حقيقة أن الروس لا يريدون استمرار بشار الأسد بشخصه، ولكن نظامه ونهجه، فهذا ألكسندر بورتنيكوف، رئيس خدمة الأمن الاتحادية الروسي، يصرح أن تدخل بلاده في سوريا لم يكن بهدف دعم الأسد، وإنما محاربة الإرهاب، وهي الشماعة التي دائما ما تستخدمها الدول الآن لتبرير واخفاء أهدافها الحقيقية، فالتدخل الروسي جدد الروابط ونشط الاتصال المباشر بالمؤسسة العسكرية السورية على المستويات المتوسطة والعليا، حيث أن معظم القادة العسكريين السوريين تلقوا تدريبهم بالاتحاد السوفياتي السابق، لكن فقدوا الاتصال بموسكو منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، ووفرت التدخل الأخير لروسيا فرصة تجديد الاتصال معهم، وبالتالي إمكانية استبدال الأسد بحليف روسي آخر، إذا زادت الضغوط الدولية لتغييره بعد جرائمه الفظيعة في روسيا.
كما أدى التدخل العسكري الروسي في سوريا إلى نسيان العالم الحرب الروسية وما جرى فيها، في شبه جزيرة القرم وما فعلته موسكو ضد استقلال أوكرانيا ووحدة أراضيها، كما لم يعد أحد يتذكر أن روسيا ما تزال تحتل 25 في المائة من أراضي جورجيا.
كما ساعد التدخل في سوريا بوتين على الترويج لنفسه، باعتباره قائدًا قويًا على استعداد لحماية حلفاء موسكو، على النقيض من أمريكا العاجزة عن التدخل لحماية حلفاءها، وبذلك أصبحت روسيا ملاذا لدى بعض الدول التي تريد حسم حروبها وتدخلها في دول أخرى وهذا ما نراه على سبيل المثال في ليبيا.
وربما شكل التدخل الروسي الذي تم بالتأكيد بالتنسيق مع الولايات المتحدة، التي أعلنت في زمن أوباما انسحابها من التدخل المباشر في المنطقة وقيادتها من الخلف، وبالتالي فهي بحاجة إلى حليف متواجد على الأرض يحسم المعارك، فقدم بوتين نفسه بهذه الصيغة وهي أفضل عند الأمريكان والإسرائيليين من التدخل الإيراني في روسيا، الذي يمنح إيران تمددا غير مرغوب فيه.
وهناك هدف آخر أشار إليه بوتين علانية، في مؤتمره الصحفي السنوي في ديسمبر عام 2015، وهو أن العمليات في سوريا تعد تدريبات عسكرية ذات كلفة رخيصة في ظروف حرب حقيقية على حد تعبيره، أي أن سوريا أصبحت بالنسبة للروس مجالا لتجربة الأسلحة الروسية واعلانا لتسويقها إقليميا ودوليا.
وثمة هدف آخر تعسى إليه روسيا وهما مجالان اقتصاديان سينعشان الاقتصاد الروسي المتأزم بالعقوبات الغربية عليه عقب حربه في الرقم، وهذا المجالان هما: النفط وإعادة اعمار سوريا، وذكر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، أن شركات النفط الروسية مدركة لقيمة سوريا كمركز لنقل النفط والغاز أكثر من أنها دولة مزوّدة، وسعت إلى إيجاد وسيلة للمشاركة في مشاريع الطاقة السورية وليس التنافس معها.
ولكن ما هي تكلفة الحملة العسكرية الروسية على الأرض طوال هذه المدة منذ نهاية سبتمبر 2015 وحتى نهاية عام 2019: بحسب تقرير للمعهد البريطاني للدفاع أي.إتش.إس جينز، أصدره في 26 أكتوبر 2015، ونشرته صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، أي بعد أقل من شهر على بدء الطلعات الجوية الروسية في سماء سوريا، فإن موسكو أنفقت ما بين 2.3 مليون دولار و4 ملايين دولار يومياً على عملياتها العسكرية في سوريا.
وفي تقدير آخر لتكلفة الحملة العسكرية الروسية، قالت صحيفة "جازيتا" الروسية، في 9 يناير 2016، إن موسكو أنفقت 4 ملايين دولار يومياً منذ 30 سبتمبر 2015 وحتى منتصف نوفمبر من نفس العام.
وفي أرقام مشابهة لتوقعات المعهد البريطاني، نشرت مجلة "جينز" العسكرية البريطانية دراسة شاملة، في أكتوبر 2015، قدّرت فيها الإنفاق اليومي على عمليات موسكو العسكرية في سوريا بـ 2.4 مليون دولار إلى 4 ملايين دولار.
وشمل الإنفاق تكلفة الأسلحة والصواريخ والقنابل المستخدمة في القصف، إضافة إلى الخدمات التقنية وصيانة المعدّات المشاركة في العمليات، ونفقات المورد البشري.
وقدّرت الدراسة تكلفة عمل الطائرة الحربية الروسية في الساعة الواحدة بقرابة 12 ألف دولار.
وخلصت الدراسة أيضاً إلى أن روسيا تنفق قرابة 440 ألف دولار على الرواتب الشهرية والمكافآت للضباط الروس العاملين في قاعدة حميميم في سوريا، وعلى الطعام والخدمات الأخرى التي تقدمها لهم.
وقدّرت المجلة البريطانية تكلفة الصاروخ الواحد الذي تطلقه السفن الروسية باتجاه سوريا بـ 1.2 مليون دولار.
ولكن الرئيس الروسي بوتين أعلن في مارس 2017 أن تكلفة عمليات بلاده في سوريا بلغت 478 مليون دولار، وانطلاقاً من هذا الرقم فإن التكلفة اليومية للعملية العسكرية بعد 167 يوماً من انطلاقها بلغت قرابة 2.87 مليون دولار.
بينما قالت مؤسّسة آي إتش إس الدولية، التي تعدّ مصدراً مهمّاً للمعلومات والتوقّعات العالمية في مختلف القطاعات، في تقرير نشرته بـ 18 مايو 2016، إن تكاليف مشاركة روسيا في الحرب السورية اقتربت من 700 مليون دولار، خلال الـ 167 يوماً الأولى من العمليات العسكرية.
ومن ثم فإن نفقات روسيا اليومية على الحرب، بحسب آي إتش إس، تبلغ نحو 4 ملايين دولار.
هذه النفقات الروسية الكبيرة سيجري تعويضها عن طريق التحكم في السوق السورية النفطية وشركات إعادة الاعمار في مرحلة ما بعد الحرب.
وبهذا الاستعراض ندرك أن المكاسب التي تجنيها روسيا استراتيجيا واقتصاديا، كبيرة من بقاء النفوذ الروسي في سوريا، والذي سيعزز تواجده العسكري في قاعدة طرسوس وأحميم في مرحلة ما بعد الحرب، كداعم لاستمرار النظام حتى ولو قبل الروس تغيير واجهة النظام واستبدالها بوجوه جديدة تقبل بالنفوذ الروسي.